حالة من الهدوء سيطرت على التطورات السياسية العالمية خلال العام الماضي، واتجاه إلى تحكيم التسويات السياسية محل الصراعات المسلحة، تعرضت تلك الحالة إلى التدهور المفاجئ نتيجة لحدوث فراغ فـي العملــية السياســية عقب قرار القوى الكبرى في العالم التوقف عن الانخراط في الصراعات المسلحة.
شجع ذلك بعض القوى الإقليمية أو الداخلية على محاولة تغيير معادلات ومعطيات مشكلاتها مع الأطراف الأخرى بالقوة، ظنا منها أن القوى الكبرى التي كانت تفضل التسوية السياسية، ثم تخلت عن اهتمامها المباشر، وحرصها على وضع تلك المشكلات في إطار معين لا تتجاوزه، لن تتحـرك ولن تمانع إذا ما حدث بعض التغير بشكــل ذاتــي مــن جانــب الأطــراف المعنية. في نمط التحرك الذاتي من الأطراف الأصلية، يمكن رصد حالات التمرد العسكري والانقلاب الذي وقع في أفريقيا الوسطي، ومحاولة التمرد في الكونغو، والتوتر الذي كاد يصل إلى حد مواجهة مسلحة بين الصين واليابان حول الجزر المتنازع عليها بينهما، وأخيرا التفجيرات النووية التي قامت بها كوريا الشمالية.
ففي كل تلك الحالات، وجدت بعض الأطراف فرصة لاستخدام القوة لتغيير الواقع، سواء لتقويض السلطة القائمة، كما حدث في أفريقيا الوسطي، أو لتثبيت توازن إقليمي جديد، كما أرادت بيونج يانج إفهام جارتها الجنوبية والعالم، أو لاختبار حسابات رد فعل الأطراف الأخرى المعنية، كمــا بــين الصــين واليابان. في نمــط عــودة القوى الكبرى ذاتها إلى استخدام القوة، يقدم التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي مثالا صارخا على ذلك النمط، حيث قامت فرنسا بالرد على انفصال أزواد ليس برفض الاعتراف بالدولة الجديدة، أو حشد المجتمع الدولي للضغط عليها سياسيا واقتصاديا، وإنما بالتحرك الدبلوماسي النشط أولا في مجلس الأمن لاستصدار قرار يتيح التدخل العسكري لإنهاء حالة الانفصال، ثم مع الدول الأفريقية لتأمين مواقف مؤيدة للعمل العسكري الفرنسي، ثم للتنسيق بشأن المراحل التالية.
بالإضافة إلى حالة مالي، تقدم الأزمة السورية مثالا آخر على تغيير القوى الكبرى نمط تعاطيها وحساباتها تجاه الأزمات الإقليمية.
فقبل أشهر قليلة، أعلنت الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا -وهي كبرى الدول الغربية المنخرطة في الأزمة- أن تسليح المعارضة السورية أمر تقابله عقبات ومحاذير، وأن الحل السياسي هو الأمثل وهو المتاح أيضا.
وبالفعل، فإن تحركات ديبلوماسية نشطة تمت في اتجاه تأمين حل سياسي توافقي بين المعارضة السورية، بضمانة أميركية - روسية، على أرضية تفاهمات جنــيف الـتي تمت فــي نهــاية يــونيو 2012.
إلا أن انقلابا مفاجئا في المواقف وقع بالتزامن من جانب المعارضة السورية، وكل من بريطانيا وفرنسا، ثم بدرجة أقل من جانب الولايات المتحدة.
ففي توقيت واحد، أعلنت المعــارضة السورية تشكيل حكومة مؤقتة، وهــو ما يعني القضاء على صيغة جنيف، ورفــض أي حل سياسي يتضــمن وجــود أو استمرار النظام السوري الحالي، الأمر الذي يعني مباشرة اختيار استمرار المواجهة المسلحة منهجا لإدارة الصراع، إذ لم يكن من المتصور بحال إمكانية التوصل مع النظام السوري إلى أي حــل ســياسي لا يكون طرفا فـيه، وبـعد أن تــم نــزع الشــرعية عنه.
وعمق من حدة هذا الوضع الجديد قرار الجامعة العربية شغل مقعد سوريا بواسطة الائتلاف الوطني السوري المعارض، ثم السماح بتسليح قوات المعارضة بواسطة من ترغب من الدول العربية. وبالتــــوازي مـــع هذا التطور على جانب المعارضة السورية والجامعة العربية، كانت بريطانيا وفرنسا تعلنان أنهما بصدد تسليح المعارضة، ثم لحقت بهما الولايات المتحدة أيضا.
يكشف ذلك التحول المفاجئ المتزامن عن أن التدخل العسكري الخارجي، وإن لم يكن مباشرا، ولا بواسطــة القوى الكبرى ذاتها، كما حدث في الحالة الليبــية، فإنــه دخل مجددا في دائرة حسابات بل وقرارات الدول الغربية، وإن كان من خلال أداة طرف تنفيذي آخر، هــو القوات والـجمـاعات المسلحة التـي تــقاتل ضــد النظــام السوري.
*العرب اون لاين