|
موقعُ إيران في التاريخ والجغرافيا، منذ ما قبل كسرى إلى ما بعد الوليّ الفقيه، يحتّم على طهران لعب دور يتناسب مع حجم البلد ودلالاته. أما نظام الجمهورية الإسلامية فمجبر فوق ذلك، على تحري القوة والمِنعة والتفوّق، ليس اتساقا مع الشروط الجيوستراتيجية المنطقية فقط، بل درءا لأخطار تستهدف ديمومة النظام السياسي منذ أرساه روح الله الخميني. لبّ المعضلة الوجودية في طهران تكمن في اعتراف العالم "النهائي" بطبيعة النظام الحاكم وخصوصيته.
وفق موضوعية الأسباب وخصوصيتها تقطع طهران أشواطاً في استراتيجية الوقاية والتمكن. وما البرنامج النووي المثير للجدل إلا أداة تشكّل ضرورة "غير كافية" لتحصين البلد ونظامه. المفاوض الإيراني حول البرنامج النووي، لا يعتبر حماية ذلك البرنامج أولوية الأولويات، بل ما برح يطالب بحشر التفاوض النووي ضمن سلّة ملفات توفّر اعترافا أمميا بالدور "النهائي" للنظام الحالي في إدارة شؤون إيران كما شؤون عديدة في المنطقة.
تدرك طهران أن قنبلتها النووية الموعودة لا تخيف الغرب غربا ولا تخيف روسيا والصين وباكستان والهند شرقا، كما لا تهدد أمن إسرائيل. فتلك المناطق تسبق إيران في امتلاك ترسانة نووية، وهي تمتلك قدرة نارية عالية على تدمير إيران عدة مرات. فيما تقارير غربية، وخصوصا إسرائيلية، بدأت تتناول الاحتمال النووي الإيراني بصفته "قدرا" بالامكان التعايش معه.
الخيارات النووية الإيرانية وفق تلك الحقائق لا يمكنها أن تشكّل وحدها إستراتيجية ردع آمنة لنظام الولي الفقيه في طهران. صحيح أن القنبلة النووية ستغيّر من طبيعة الصراع مع الغرب وإسرائيل (واحتمالاً مع دول نووية جارة أخرى)، بيّد أن طهران تسعى لتثبيت وتدعيم نفوذها الميّداني في المنطقة بغية قبولها لاعبا محوريا لا يمكن تجاوزه في في المنطقة.
لم تخجل إيران، اتساقا مع تلك الاستراتيجية، من تقديم نفسها حامية للشيعة في العالم عامة وفي الجوار خصوصاً. فالمذهبية هي النواة الصلبه لوسائل التمدد العضوي داخل النسيج الاجتماعي السياسي في المنطقة. وفق تلك الإستراتيجية جرى ربط مصير الشيعة بمصير النظام السياسي في طهران، كما جرى تنشيط الحراكات الشيعية في العراق ولبنان والبحرين واليمن وغيرها للتلائم مع الأجندة الإستراتيجية لأولي الأمر في إيران.
أجادت طهران بحذاقة التعامل مع كافة المكونات الشيعية، حتى العلمانية منها، ونصّبت نفسها بجدارة مرجعاً وحيداً، وحتى اشعار آخر، لكافة المكونات الشيعية (بما فيها تلك القريبة من الشيعة كالعلوية السورية والزيدية عند الحوثيين في اليمن). ووفّر الاعتماد على التيارات الشيعية (كنواة صلبه لحراك طهران)، قاعدة انطلاق لتوسيع ميّدان الولاء داخل قطاعات تتجاوز المذهب الجعفري وتسجّل اختراقات لافتة عند السُنّة في العقد الأخير (لا سيما من خلال الإخوان المسلمين)، إضافة إلى المغامرة في فضاءات متعددة في السياسة والاقتصاد والامن.
ضمن هذا الاطار، جرى تطوير القدرات العسكرية التقليدية الإيرانية (البحرية والصاروخية خصوصاً). وخرجت طهران تطلق، من خلال مناواراتها، رسائل عن دورها في تسهيل أو تعطيل أمن المياه في الخليج. كما أن امتدادات إيران اليمنية، وتلك في أريتريا، تطل لا شك على أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي وباب المندب، ناهيك عما كُشف أخيرا عن تعاون عسكري متقدم مع السودان يتداعى على دول حوض النيل.
تتناقض الاستراتيجيات الإيرانية تلك بطبيعتها مع مصالح كثيرة في المنطقة. وربما أن طبيعة الاستراتيجيات الإيرانية تستلهم دينامياتها من تناقضها التاريخي والموضوعي والأبدي مع جيرانها في المنطقة. واذا ما كانت الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي علامة دراماتيكية من علامات هذا التناقض، فإن توتر علاقة طهران مع كافة دول المنطقة العربية، ما عدا سوريا، يعكس تناقضا بنويا بين أهداف إيران النهائية واستكانة امر ذلك لدى دول المنطقة.
واقع الأمر أن طهران تسعى لانتهاج كل الخيارات المتوفّرة حتى لو اصطدم ذلك مع خيارات الآخرين. هذه لعبة الأمم على مدى التاريخ، والبقاء دائماً للأقوى. وفق ذلك ماذا تُدبّر دول المنطقة للتعامل مع هذا" القدر"؟
لتركيا استراتيجيتها التقليدية الخاصة. هي جزء من المنظومة الأطلسية بالمعنى الأمني، وهي بالتالي محميّة بالمظلّة النووية الأطلسية منذ موقعها في الحرب الباردة. أما القوى النووية الإقليمية، التي أشرنا إليها سابقا، فهي بمنأى موضوعي عن الخطر النووي الذي تمثّله إيران. وحدهم العرب مكشوفون نظرياً وقلقون من أية تسوية إيرانية مع الغرب تُمرر خلف ظهورهم.
المتأمل في تطوّر الدور الإيراني في المنطقة سيلاحظ بسرعة أن ديناميات الحركة الإيرانية الإقليمية لا تستند فقط على عوامل القوة لدى الطرف الإيراني، بل على عناصر السلبية والجمهود التي تعامل بها العرب مع ميّدان العمليات الإيرانية. وحتى أن استراتيجيات الأمن الغربية في المنطقة، بدأت تُظهر علامات قبول وهضم للاحتمال النووي الايراني. فقد تعذّر فهم التصريحات الأخيرة لأوباما، لا سيما المعلومة التي تفيد ان أمام إيران سنة ونصف لامتلاك قنبلتها النووية، في ما إذا كان يعبّر عن قدرية لا وسائل لردها أم انذار وتحذير لرفضها.
وبغضّ النظر عن الاجتهادات التي ستدور حول ذلك، فإن العرب مطالبون باستراتيجية تتعامل مع الحراك الإيراني، فأما القبول به "قدرا" محتوماً وجب الإذعان له والقبول بمفاعيله وربما التكامل معه (رغم استحالة ذلك لأسباب موضوعية وتاريخية أشرنا إليها)، وإما التصدي له والحدّ من جموحه. فالمواقف النظرية الرافضة للخيارات الإيرانية ما زالت دون مستوى التحديات على المستوى العملي. فما الاستراتيجيات العربية المضادة لتلك الإيرانية التي تنشط في العراق واليمن ولبنان والخليح... الخ؟ كيف يسترجع العرب السيادة على قرارهم في بيروت ودمشق وبغداد؟ ثم ما الذي يمنع العرب من السعيّ لبناء برامج نووية (تقيهم من كافة الأخطار النووية في المنطقة ) في منطقة تحوّلت نووية وهم فيها مراقبون؟
لإيران مصالح وهي عنها تدافع وتسعى وتتصرف، ومنطقي أن يُسأل العرب ماذا أنتم فاعلون؟
- نقلا عن صحيفة الحياة:
في السبت 30 مارس - آذار 2013 08:43:48 م