|
الفارق بين مواقف وأداء صخر الوجيه كنائب برلماني قبل ثورة الشباب السلمية، وبين مواقفه وأدائه كوزير للمالية بعد الثورة، لا يبدو فارقا يخصه، وكذلك التغير الذي حدث في أدائه بين مرحلتين وموقعين، لا يبدو تغيراً يخصه. إنه فارق بين مواقف وأجندة رجل آخر سواه هو حميد الأحمر الذي تغير بين مرحلتين وموقعين، ليتغير الأول في ظله وطبقا لتغيره، ويصبح ما هو عليه اليوم. فصخر يبدو نموذجا لما يمكن وصفه بالرجل الصفر في الحكومة اليمنية، الذي يشغل منصبه كواجهة لرجل آخر (أو مركز نفوذ) يقف في الظل، ويمثل الشاغل الفعلي للمنصب.
صعد صخر الوجيه إلى البرلمان، حيث قدم العديد من العروض التي حازت إعجاب الكثيرين، فمواقفه المعارضة وصراخه ضد فساد نظام صالح تحت قبة البرلمان، كان يثير الإعجاب، لأنه كما بدا حينها لكثيرين كان يصب في اتجاه الانتصار للفقراء والبسطاء من أبناء هذا البلد. غير أن هذا النائب، الذي ينحدر من أسرة بسيطة، لم يكن يعارض ويصرخ ليسمعنا نحن اليمنيين البسطاء مواقفه وصوته، ولا كان يفعل من أجلنا، بل كان يعارض ويصرخ ليسمعه الأحمر وجبهة التحالف التي ينضوي في إطارها، لكي يعرف الأخير أن هذا من أجله، وهذا احتمال يتعزز بالنظر لتعامله مع قضية جرحى الثورة.
دخل الجرحى الأسبوع الثاني من إضرابهم عن الطعام للضغط عليه للتراجع عن موقفه الرافض لاعتماد تكاليف علاجهم، وهو موقف مثير للدهشة والاستغراب. فلدى الجرحى حكم قضائي بات قضى بضرورة أن تتكفل الحكومة بعلاجهم في الخارج، لكن الوجيه يضع نفسه فوق القضاء والقانون، ويرفض تنفيذ الحكم. وقد توفي أحد الجرحى في تعز منذ يومين جراء التأخر في علاجه، وهناك آخرون تتدهور حالتهم الصحية يوما بعد يوم، وقد يتبعونه. إلا أن هذا لم يغير من موقف الرجل الذي يصر على إغلاق أذنيه أمام أصوات الجرحى وهم يحتضرون.
"ليس هناك قلب أقسى من قلب جبان"، لست متأكداً إذا ما كانت هذه المقولة للكاتب الأمريكي أرثر ميللر، لكني متأكد أنها تنطبق كليا على صخر الوجيه. فهذا الرجل الذي كان يرتدي قناع البرلماني الشجاع في معارضته لنظام صالح تحت دعوى دفاعه عن "حقوق اليمنيين"، يمتنع اليوم بشدة عن دفع حقوق مجموعة بسيطة من جرحى الثورة تتألف من 11 جريحا، ضاربا عرض الحائط بأحكام القضاء الملزمة له بالدفع. ما من إنسان قاسي القلب يمتلك وقية إحساس واحدة يمكن أن يتخذ أمام هذه القضية موقف الوجيه، ما لم يكن يمتلك قلبا ميتا كقلب جبان، وما من جبان يمكنه أن يتخذ موقفا متعنتا ضد مطالب الناس الضعفاء وحقوقهم، ما لم يكن ظهره مستندا لجدار يظنه سيحميه من أية مساءلة وعقاب، جدار من الأقوياء الذين يعمل في أيديهم كقفاز سميك لسرقة حقوق الضعفاء.
جدار الأقوياء الذي يستند إليه هذا الوزير، يتألف من حزب الإصلاح وحلفائه، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاذيب. مؤيدو الوجيه من الإصلاحيين يرون فيه رجل دولة محترماً، وفي موقفه التزاما بالقانون، باعتبار أنه ليس هناك بند في الميزانية العامة للدولة يسمح له بصرف تكاليف علاج الجرحى منه. كذب. فهناك بند في الميزانية مخصص لعلاج الجرحى، وقيمته 3 مليارات ريال، والأحكام القضائية التي رفضها الوجيه استندت على توفر هذا البند، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، يكذب كل من يبرر موقفه بمبرر كهذا. فالوجيه صرف ويصرف مئات الملايين والمليارات لمراكز قوى ومؤسسات غير رسمية وشخصيات تنتمي للجدار السياسي والديني والقبلي الذي يستند إليه. هل مبلغ المليار ريال الذي صرفه للشيخ عبدالمجيد الزنداني فور توليه الوزارة، لبناء مسجد في جامعة الإيمان، كان ضمن بنود الميزانية؟ سيجادلك أحد المدافعين عنه، ويقول: هو صرف المبلغ لأنه كان معتمدا من قبل علي عبدالله صالح! أليس هذا مدعاة لعدم صرفه، لاسيما وأنهم يعتبرون كل ما يأتي من "المخلوع عفاش" غير مشروع؟
لنضع هذا جانبا! هناك فضيحة حدثت للتو في ظل إضراب جرحى الثورة، كان "رجل الدولة" هذا بالذات بطلها. في حين رفض تنفيذ أحكام القضاء التي قضت بصرف حوالى 330 ألف دولار و940 ألف ريال، كتكاليف علاج للجرحى المضربين ومصاريف تقاضي، قام بصرف أكثر من ملياري ريال من المليارات الـ3 المخصصة للجرحى في الميزانية، لجمعية "وفاء" التي دشنت الخميس فعاليات "مواساة أسر الشهداء والمعاقين"، متجاهلة الجرحى الذين كان قد مضى عليهم 5 أيام وهم مضربون عن الطعام أمام رئاسة الوزراء. وقد تمت عملية الصرف بدون معرفة الحكومة، وبمخالفات صارخة للقانون، وأثارت أزمة لا تزال قائمة.
"وفاء" هي جمعية إصلاحية خاصة حديثة التأسيس، ويقال إنها لا تزال بدون ترخيص، وقد صرف هذا المبلغ الضخم لها لكي تتولى توزيعه بنظرها على الشهداء والجرحى، في حين أن هناك لجنة حكومية مشكلة لتولي المهمة! صرف أي مبالغ من أي بند من بنود الميزانية لأية مؤسسة خاصة، يمثل مخالفة صارخة يحاسب عليها القانون، إنها سرقة واضحة لأموال الجرحى والمال العام، إنه فساد سافر. لقد أثار هذا اعتراض وزير الصحة الذي لوح بالاستقالة، وواجه وزير المالية الآمر بصرف 100 مليون ريال للجنة الحكومية، في نوع من الترضية لها، بحسب ما أوردت "الأولى" في تقريرها السبت!
الوجيه لا يمت لرجل الدولة المحترم والملتزم بالقوانين وبنود الميزانية بصلة. وهذا النائب الذي عرف بصراخه ضد فساد وزارة المالية قبل الثورة، بات يمارس الفساد بلا حياء ولا رادع بعد أن تولى الوزارة.
بين رفضه تنفيذ أحكام القضاء الخاصة بصرف تكاليف علاج قرابة 11 جريحا من جرحى الثورة غير الإصلاحيين، وقيامه بصرف ملياري ريال لجمعية "وفاء" المهتمة بشهداء وجرحى الإصلاح، تتجلى الوقاحة والفساد في أوضح صورهما، وهذا لا يشكل سوى الخبر السيئ فقط. أما الخبر الأسوأ فهو أن الوجيه يتصرف بأريحية عجيبة في الحالتين، وكأنه على حق، وكذلك يفعل مؤيدوه في الدفاع عنه! كيف يمكن فهم هذا؟
يستغرب الكثيرون من هذا التحول لرجل لم يكن يكف عن الصراخ في وجه الفساد، أن يتوقف. يتحدثون عن رجل بوجهين كما كتب مرة الزميل محمد عبده العبسي عن "وجهين لرجل واحد". لكن مشكلة هذا الرجل ومشكلتنا معه تبدو لي أكبر بكثير.
لم يكن صخر الوجيه يعارض نظام صالح ويصرخ في وجه فساده لأنه كان يتبنى موقفا معارضا للنظام ومناهضا للفساد بالفعل، بل لأن حميد الأحمر والإصلاح عموما كانا يتبنيان هذا الموقف مرحليا حين لم يكن بوسع أيديهم أن تطيش في الصحفة وتعيث بالخزينة العامة فسادا. فقد ركز الوجيه جهوده على ملف الفساد في الغاز والنفط، لأن هذا الملف كان أحد محاور الخلاف بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحميد الأحمر، وأحد أسباب ارتفاع نبرة معارضة الأخير للأول، اعتبارا من العام 2005. ومنذ 2009، أصبح الوجيه نائب رئيس اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، التي أسسها الأحمر.
لهذا، لا غرابة أن نشاهد هذا الرجل، الذي قدم نفسه لسنوات في البرلمان بوصفه الأعلى صوتا في وجه فساد وزارة المالية، يتحول إلى صورة الوزير الأكثر فسادا بمجرد توليه سدة هذه الوزارة، ويعمل كقفاز سميك في يد حميد الأحمر وحلفائه في نهب الخزينة العامة. لكن، هل يشعر الرجل بالتحول الجذري الذي حدث في صورته؟
النائب المناهض للفساد سابقا يمارس الفساد من موقعه الوزاري اليوم بدون تردد أو حياء، وبصوت عالٍ. على الأرجح أنه لا يشعر بالتحول الذي حدث في مواقفه وصورته، لأن هذا التحول لم يكن تحوله هو، ولأن تلك المواقف لم تكن مواقفه هو، ولأن الوجيه لم يكن نفسه كنائب برلماني مناهض للفساد في الأمس، وهو ليس نفسه اليوم كوزير مالية فاسد. صخر الوجيه غير موجود في الواقع، صخر الوجيه ليس شخصا، بل أمر آخر. إنه صفر (مع احترامنا للصفر طبعا).
في الخميس 07 فبراير-شباط 2013 10:17:38 ص