|
لا يعني هذا التاريخ - بأي حالٍ من الأحوال - تأخر استيقاظ الوعي الوطني والاجتماعي عند العمال، خاصة إذا عرفنا أنّ أشكالاً جنينية من الطبقة العاملة الوليدة كانت قد ظهرت على طول وعرض البلاد شمالاً وجنوباً، وتركزت في المدن التي برزت فيها الحاجة للأيدي العاملة اللازمة لتشغيل الورش والمرافئ ومحطات الكهرباء الصغيرة ومحالج القطن والمعامل اليدوية وغيرها من المرافق الخدماتية.
بيد أنّ الاستثمارات النوعية والكبيرة، نسبياً، التي قام بها الاستعمار في مدينة عدن أواخر الأربعينات، أحدثت تغييرات على الخارطة الاجتماعية للجنوب المحتل عامة، ومدينة عدن خاصة، حيث غدا ميناء عدن مركزاً هاماً للتجمعات العمالية، بالإضافة إلى توسع نشاط الشركات التجارية الأجنبية. وفي بداية الخمسينات، وعلى إثر تأميم حكومة مصدق الوطنية للعمليات النفطية في إيران، أنشأت شركة بريتيش بتروليوم مصافي الزيت البريطانية في عدن، والتي أدى قيامها إلى زيادة وزن الطبقة العاملة -نوعاً وعدداً- وقد ترافق توسع القاعدة العمالية مع ظهور بعض الأشكال النقابية في الفترة 1951 - 1953م مثل رابطة العمال والفنيين عام 1951م، ونقابة عمال وموظفي خطوط عدن الجوية، وجمعية موظفي سلاح الطيران عام 1953م.
وللإجابة عن التساؤل الذي قد يبرز حول أسباب تأخر دخول الطبقة العاملة المجال السياسي قبل إضرابات العمال في مارس 1956م، لابد من الإحاطة بمسألتين على جانب كبير من الأهمية.
أولاً: تميّزت العَلاقة، التي كانت تقوم بين العمل ورأس المال بسيادة العَلاقات القبلية والعشائرية، فقد كانت عملية استخدام العمال في شركات الملاحة بالميناء تتم عن طريق "المقامة" الذين كانوا يستقطبون عمالاً بواسطة هذه العَلاقات باعتبارهم مقاولي أنفار.. وأدى هذا الوضع على إبراز أولئك "المقامة" كرؤساء قبليين وعشائريين للعمال في الميناء، حيث كانت كل مجموعة عمالية تنتمي إلى قبيلة أو منطقة أو قرية معينة في الجنوب والشمال. ثانياً: لم تكن الجمعيات التي ظهرت في مطلع الخمسينات نقابات منظمة بالمعنى الدقيق.
ولعل ذلك يعود إلى اعتمادها على كبار الموظفين، بالإضافة إلى العمال وأصحاب العمل المحليين معاً، وقد ضمت تلك الجمعيات أصحاب العمل إلى جانب العمال في آنٍ واحد، كما هو الحال في رابطة العمال والفنيين التي ضمت التجاريين وأصحاب ورش النجارة المحليين أيضاً، وأصبح بعض قادتها مقاولين كباراً وأصحاب ورش.
وينبغي التأكيد بأنّ الحركة النقابية اليمنية المنظمة لعمال اليمن، والتي ولدت في عام 1956م بمدينة عدن، لم تكن - برغم كل ما سبق ذكره - بعيدة عن العوامل التي أدت إلى إيقاظ الوعي الوطني، كما أنّها لم تكن مقطوعة الجذور عن المحتوى الرئيسي والاتجاه العام للعملية الوطنية التاريخية المعاصرة التي دشنها شعبنا اليمني منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
ومما له دلالة أعمق، بهذا الصدد، أنّ أول شرارة أشعلت إضرابات مارس المجيدة عام 1956م كان الإضراب الذي قام به عمال وموظفو "بيت البس" الذي كان يمثل أكبر شركة تجارية أجنبية في عدن وجنوب الجزيرة العربية، وذلك احتجاجاً على طرد هذه الشركة للشهيد محمد ناصر محمد، عقاباً له على دوره البارز في تأسيس نقابة عمال وموظفي شركة "البس" وانتخابه سكرتيراً لها.
وقد ألهب النصر الذي حققه العمال بإعادته إلى عمله، حماس العمال مع الشركات الأخرى، وشجعهم على المطالبة بحقوقهم المدعومة، وفيما بعد ثابرت العناصر الوطنية الناشطة على تقوية قنوات الاتصال بالعمال والفئات الأخرى كالطلاب والنساء، وساعدت على تنظيمها وصياغة مطالبها وتوعيتها بالقضية الوطنية عن طريق المحاضرات التي كانت تلقى في تجمعات العمال في البراقات الشهيرة بقرب ميناء التواهي، حيث جرى هناك، لأول مرة، الاحتفال بعيد أول مايو، ورفع شعار الاستقلال والوحدة اليمنية إيذاناً بدخول العمل الوطني مرحلة حاسمة ونوعية.
ولم يكن من قبل الصدفة أن تنفجر، بعد إضرابات مارس العمالية، حركة واسعة من الإضرابات الطلابية ضد السياسة التعليمية، والتي شملت جميع المدارس الحكومية، بالإضافة إلى إضرابات عمال محلج الكود في أبين، والمظاهر الشعبية الضخمة التي انطلقت في شوارع عدن في مايو 1956م احتجاجاً على زيارة اللورد لويد جورج وكيل وزارة المستعمرات البريطانية لعدن، والإضراب العام في أبريل 1958م، ضد فتح أبواب الهجرة الأجنبية إلى عدن من بلدان الكومنولث، وانتفاضة أكتوبر 1958م ضد انتخاب المجلس التشريعي المزيف، وإضراب عمال أمانة ميناء عدن لمدة 14 يوماً في أواخر 1959م، ثم الإضراب العام في أغسطس عام 1960م ضد قانون منع الإضراب.
كان لحركة الإضرابات تأثيرها الواضح على أساليب الكفاح السياسي، حيث أدى دخول الطبقة العاملة، كقوةٍ سياسة منظمة، في نقابات، إلى رفد العملية الوطنية التاريخية لشعبنا اليمني بطاقات كفاحية هائلة والارتفاع بها إلى مستوى أعمق. وإذا كان أقصى ما كانت تطلبه الفعاليات السياسية في الجنوب المحتل، قبل قيام النقابات، هو جعل اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة الإنجليزية، فقد ارتفعت عالياً بعد حركة الإضرابات العمالية، شعارات الاستقلال والوحدة اليمنية، التي نقلت الحراك السياسي من الخطب والعرائض إلى الانتفاضات والمظاهرات والإضرابات.
وبطبيعة الحال لم تقف السلطات الاستعمارية موقف المتفرج من هذه التطورات، وهي التي كانت تعمل على درئها منذ انبلاج خيوطها الأولى، إيذاناً بالتحام العمل النقابي بالعمل الوطني.. فقد حاولت السلطات الاستعمارية القضاء على الحركة النقابية، وضرب حركة الإضرابات مستخدمة سلاح النفي ضد العمال من أبناء الشطر الشمالي من الوطن، والفصل من الوظائف الحكومية، فيما غصت الشوارع بالشرطة المسلحة التي أطلقت نيرانها على المتظاهرين من العمال والطلبة، وسقط بسبب ذلك العديد من الشهداء والجرحى. كما قامت السلطات الاستعمارية باعتقال مئات العمال ونسقت مع أصحاب الصحف لطرد الكتَّاب الوطنيين منها، وحظر نشر كتاباتهم، وعملت بالتنسيق مع أصحاب الشركات الأجنبية الاحتكارية لتطويق هذا المارد الوليد عبر نشر الإشاعات المغرضة وإثارة المشاعر الطائفية والقبلية، بهدف بث الفرقة بين صفوف العمال والوطنيين.
وأمام هذا التطور الملحوظ في حركة الكفاح الشعبي والأشكال النضالية التي أفرزتها حركة إضرابات مارس الشهيرة عام 1956م، أصبح واضحاً جداً عجز القيادات الرئيسية للحركة الوطنية اليمنية عن استيعاب الدلالات والأبعاد السياسية لدخول الحركة النقابية ساحة الكفاح الوطني. حتى قيادة حركة الأحرار اليمنيين، وجدت نفسها، من خلال الاتحاد اليمني الذي كان مقره عدن، عاجزةً عن مواجهة ذلك الموقف الصعب الذي تمثل بارتفاع شعار الاستقلال والوحدة اليمنية، وما نجم عنه من إجراءات تسفير تعسفية واسعة ضد أبناء الشمال وملاحقتهم واضطهادهم.
وغني عن القول إنّ قيادة حركة الأحرار اليمنيين لم تكن، أثناء وجودها في عدن، تهتم بالكفاح ضد الاستعمار في الجنوب اليمني المحتل، حيث كانت تركز كل نشاطها السياسي والإعلامي لمواجهة النظام الإمامي والمطالبة بالإصلاحات الدستورية.
والحال أنّ حركة الأحرار اليمنيين لم تستطع، هذه المرة، أن تبقى بعيدة عن إطار الكفاح الوطني ضد الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن المحتل، لكن ذلك تمّ في سياق الحراك السياسي العام للقوى السياسية الأخرى وعلى وجه التحديد "رابطة أبناء الجنوب" وقيادة "المؤتمر العمالي" الذي تشكل بعد تأسيس النقابات.. وكان على جميع هذه القوى مراعاة الاحتياجات والمهمات الجديدة التي طرحها تطور الواقع السياسي مثل قضية التحالفات السياسية، والموقف من المخططات البريطانية لطمس الهوية اليمنية والتي بدأت في الظهور بعد رفع شعار الوحدة اليمنية. وبتأثير هذه التطورات الجديدة ظهر «المؤتمر الوطني» الذي تكون في البداية من الجبهة الوطنية ورابطة أبناء الجنوب والاتحاد اليمني والمؤتمر العمالي ثم دخلت فيه، بعد ذلك، الهيئات الثقافية والأندية الرياضية. وكان المؤتمر الوطني قد خرج، في الاجتماع الأول لأطرافه، باتفاق على بيانٍ بالأهداف.
ويتضح من تلك الأهداف، التي لا يمكن إغفال تأثيرها على مضمون الخطاب السياسي الوطني الوحدوي بشكل أو بآخر، أنّ الرابطة لعبت دوراً كبيراً ومؤثراً في صياغة ذلك البيان، بحيث جاء متطابقاً مع موقف الرابطة.. وقد نص ذلك البيان على ضرورة قيام دولة واحدة لكل الجنوب، واعتبر شعب جنوب الجزيرة العربية جزءاً من شعب الجنوب العربي الكبير وأقر بحقه في تقرير مصيره بالنسبة للوضع العربي العام في ضوء مبادئ الأمة العربية.
وعلى الرغم من كون هذه الشعارات والمبادئ التي صاغها المؤتمر الوطني متخلفة عن حركة الأحداث، فإنّ العناصر الوطنية الوحدوية رأت أن تتصدى لهذه الشعارات من داخل المؤتمر نفسه.. وقد شرح الأستاذ علي باذيب موقف هذه العناصر من بيان المؤتمر الوطني قائلاً: "والحال أنّ العناصر الوطنية والتقدمية وجدت أنّها لا تستطيع تغيير تلك الشعارات من داخل المؤتمر آنذاك، ولم يُعد أمامها إلاّ أحد أمرين.. إما أن تخرج عن هذا الإجماع، أو أن تستمر في العمل من داخل الإطار العام للوحدة الوطنية التي تحققت بواسطة "المؤتمر الوطني"، وتعمل على الدفاع عن قضية الوحدة اليمنية وتأكيد محتواها الديمقراطي الذي ينبغي أن تنبني عليه".
برز مشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي، وذلك بهدف محاصرة شعار الوحدة اليمنية، وسلب الهوية اليمنية للجنوب المحتل عبر إيجاد استقلال شكلي وهوية بديلة باسم «الجنوب العربي». كانت سلطنات وإمارات محمية عدن الغربية، التي وقعت معاهدات حماية وصداقة مع الاستعمار البريطاني، تشكل العمود الفقري لمشروع الاتحاد الفيدرالي، فيما بقيت سلطنات محمية عدن الشرقية، (حضرموت - المهرة - سقطرى) خارج إطار هذا الاتحاد الفيدرالي، حيث كان الاستعمار البريطاني يخطط لإقامة دويلة فيدرالية في المنطقة الشرقية مستقلة عن الجنوب.
تزامن ظهور مشروع الاتحاد الفيدرالي، في مواجهة شعار الوحدة، مع انحسار موجة العداء للعمل الحزبي، حيث شهدت المنطقة تنامياً ملحوظاً لنشاط حركة القوميين العرب التي قامت بنشاط فكري بارز من خلال نشر أدبياتها، والقيام بالدعاية الواسعة لثورة 23 يوليو المصرية في شمال الوطن وجنوبه، ورفعت الحركة، بقوة، شعار الوحدة اليمنية. كما قام الماركسيون اليمنيون بتأسيس تنظيمهم السياسي في 22 أكتوبر سنة 1961م باسم الاتحاد الشعبي الديمقراطي، وإعلان ميثاقه الوطني الذي صدر تحت شعار "نحو يمن حر ديمقراطي موحد" وكان أول برنامج سياسي حزبي يضع هدفاً رئيسياً له النضال من أجل توحيد الوطن على أسس ديمقراطية. وبعد ذلك تأسس حزب الشعب الاشتراكي عام 1962م وكان بمثابة الجناح السياسي للمؤتمر العمالي.
وإذا كانت أوائل الستينات لم تسجل أي ظاهرة تنظيمية علنية لنشاط حزب البعث العربي الاشتراكي، رغم تواجده الملموس كتيار سياسي وفكري في شمال الوطن وجنوبه، إلا أنّ ثمة خيطاً شفافاً ربما كان يربط بين القيادة العليا لحزب البعث في اليمن آنذاك، وقيادة حزب الشعب الاشتراكي، وما يؤكد هذا الاعتقاد، ذلك الدعم المالي والسياسي والأدبي الذي كانت تقدمه القيادة القومية لحزب البعث في سوريا - قبل وبعد وصولها إلى السلطة في مارس 1963م - لقيادة المؤتمر العمالي، وفيما بعد لحزب الشعب الاشتراكي.
ويزيد من تأكيد هذا الاعتقاد أنّ جريدة "العامل" التي كان يصدرها المؤتمر العمالي بعدن، توسعت بشعار "الوحدة - الحرية - الاشتراكية".. وهو الشعار المركزي لحزب البعث، والذي ارتفع، في الوقت نفسه، فوق واجهة المبنى الرئيسي للمؤتمر العمالي بالمعلا.. غير أنّ أول نشاط سياسي علني لحزب البعث في جنوب اليمن وشماله كان قد ظهر في مطلع النصف الثاني من الستينات. وتأسيساً عليه يمكن القول إنّ فترة الستينات دشنت بداية مرحلة سياسة نوعية اتسمت بوجود أحزاب وطنية واتجاهات فكرية تحررية في سياق التراكم الحاصل على مستوى الوعي الوطني لشعبنا اليمني، الأمر الذي أسقط طوق احتكار رابطة أبناء الجنوب للعمل الحزبي الوطني، وأضعف نشاط وتأثير حركة الأحرار اليمنيين، على صعيد الحياة السياسية للشطر الشمالي من الوطن.
وفي غمرة تنامي الكفاح الوطني والقومي التحرري اتسعت الإضرابات والمظاهرات والانتفاضات الشعبية في الشمال والجنوب على السواء، لتضع العملية الوطنية التاريخية المعاصرة للشعب اليمني أمام أبواب مرحلة جديدة وحاسمة.. فقد كانت الأوضاع السياسية في شمال الوطن تزداد تردياً، في خضم السخط الشعبي العارم، حيث اندلعت في 22 سبتمبر 1962م إضرابات الطلاب في مدارس مدينتي تعز وإب، وسيق إلى سجون الإمام آباء الطلاب من الفلاحين والمزارعين الفقراء، عقاباً لهم على الانتفاضات التي قام بها أبناؤهم.
وليس من قبيل الصدفة أن تنتهي مظاهرات وإضرابات طلاب المدارس في شمال الوطن في صبيحة 23 سبتمبر 1962م، ليبدأ في عدن، بجنوب الوطن المحتل، الزحف الشعبي الكبير على المجلس التشريعي في 24 سبتمبر 1962م احتجاجاً على دمج عدن في الاتحاد الفيدرالي السلاطيني الاستعماري. وفي جميع هذه الانتفاضات واجه شعبنا صنوف الاضطهاد والإرهاب والقمع، بدءاً بحمامات الدم التي كان يقيمها الحكم الإمامي المستبد في الشمال، ومروراً باعتقال المئات من الوطنيين في السجون والمعتقلات في جنوب الوطن، وانتهاءً بإبعاد المئات من أبناء الشمال إلى مناطق الأطراف.
في غمرة هذا الوضع المتصاعد بالغضب والألم.. وبعد يومين من الزحف الشهير على المجلس التشريعي بعدن، ومحاكمة آباء المتظاهرين من طلبة المدارس في مدينتي تعز وإب.. وفي الوقت الذي لم تزل فيه باقية آثار الإرهاب والملاحقات والغازات المسيلة للدموع، وآهات النساء والأطفال والرجال والأسر المكلومة بفقد شهدائها واعتقال آبائها وأبنائها، وبينما كانت عدن وقرى وروابي ووديان وسهول اليمن شمالاً وجنوباً تغفو في هجعتها، ومن حولها الزمن الرابض فوق مدن الخوف ودخان القنابل المسيلة للدموع.. في غمرة هذا الوضع استيقظ شعبنا، فجر يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، ليُعلنَ قيام أول جمهورية في شبه جزيرة العرب.. وليبدأ رحلة جديدة في سياق العملية الوطنية التاريخية المعاصرة في اليمن.
في الخميس 17 مايو 2012 12:17:23 ص