فكر التغريب عند أدونيس
كاتب/احمد صالح الفقيه
كاتب/احمد صالح الفقيه
فكر التغريب عند أدونيس
أو إرهاصات عولمة السيطرة
إطلالة على مقدمة كتابه (الثابت والمتحول)

الثابت والمتحول لادونيس باجزائه الثلاثة سفر عظيم وانجاز ضخم في الثقافة العربية، الا ان المقدمة التي اوردها في الجزء الاول كانت من الحدة بحيث احفظتني واخرجت من بين تلافيفي، المتطرف الاصولي الذي يسكن كل واحد منا معشر المسلمين ظاهرا او مستترا، في هذه المقالة الغاضبة اشد الغضب، لا ازال اشعر اليوم بعد مضي السنين ان ادونيس استحق هذه الغضبة على مقدمته عن جدارة. فالى النص:

الناظر إلى أحوال العرب اليوم يرى فيها كثيراً مما يسر وكثيراً مما لا يسر. والكثير من تلك الأمور التي لا تسر أدواء منها الموروث ومنها المستحدث، ولعل الداء العياء هو التعصب. فقد انقسم العرب في كل فن من الفنون وكل درب من الدروب شيعاً وجماعات، ولئن كان هذا التعدد سنة من سنن الحياة التي قد تكون في كثيرٍ من الأحوال محمودة ومرغوبة ومطلوبة، إلا أن التعدد في حياة العرب اقترن بالتعصب، وهو تعصب مقيت لا فائدة منه ولا طائل من ورائه. وهو في أكثره اتباع عن جهل؛ فترى أحدهم يتخذ له صنماً في كل فنٍ من الفنون، وفي كل طريقة من الطرق، ويتعصب لصنمه ذاك تعصب الجاهلي القديم لصنمه، مشرعاً لسانه ذوداً عنه، وقليلاً ما يتورع عن إشراع سلاحه ليقمع به من لا يرى رأيه في أحد أصنامه.
سيرة الأصنام هذه التي أقدمها بين يدي هذا الحديث، لازمة فيما أنا بصدده. إذ أني كما سيتبين بعد قليل عازم على أن أهوي بقلمي على صنم من تلك الأصنام الكثيرة التي حفلت بها جاهليتنا المحدثة هذه. إن اسوأ ما في عبادة الأعلام الأصنام، ألا يقتصر عابدو الصنم على تقديس ما يبرز فيه من فن أو يتقدم فيه من صنعة، بل يتعصبون لكل ما يصدر عنه حتى ولو كان لا يفقه فيه شيئاً. فهو تعصب لوجه التعصب ليس للحق والعلم فيه نصيب.
يطل علينا بين الحين والآخر كتاب من أبناء جلدتنا عبر كتب أو مقالات تنتقد المجتمعات العربية والإسلامية المحتوية على الكثير مما يستحق النقد - ولكن نقد فئة منهم وهم المستغربون - نسبة إلى الغرب "الفكرة الأيديولوجية لا الجغرافية" - يتخذ موقفاً غربياً يصرون عليه دائماً، فهم يشترطون على المجتمعات الإسلامية عربية وغير عربية أن تتخلى عن دينها أو على الأقل تنتقي منه ما يتناسب مع الحداثة التي يروجون لها ويجعلونها شرطاً لتحقيق المعاصرة والتقدم التقني وتحقيق التنمية.
وكلما أمعنت النظر في أطروحات التغريبيين من النواحي التجريبية والنظرية والعملية أجدها تتصف بالغموض والتضارب وإنعدام القيمة العلمية.
علمية النقد وعمليته تعتمد على تطابق النقد مع الواقع أو بالأحرى مع الحقائق التي يقدمها الواقع، وعلى مدى الفائدة التي نجنيها من هذا النقد، وما يتيحه لنا من إمكانيات لاستبصار واقعنا ومستقبلنا.
والتغريبيون في نقدهم للمجتمعات الإسلامية يلجأون إلى عبارات شعرية الطابع توحي بالعمق ولكنها لا معنى لها من الناحية العلمية أو كما يقول هوسمان: "يستعينون بغموض اللغة لزيادة فوضى الفكر".
وهذا الغموض وذلك التخبط ليس ناتجاً عن عدم وجود ما يكفي من الشواهد القابلة للقياس الكمي ولكنها نتيجة لبعض المسلمات الثقافية والأنماط الفكرية التي تنتج مقولات تخمينية إذا صح التعبير.. وهم يعتمدون في ذلك على الهالة التي تحيط ببعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين فيأخذون مقولاتهم وينطلقون منها وكأنها حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.
وقد تناولت فيما مضى جانباً مهماً من أطروحات التغريبيين في مقالة بعنوان الإسلام والتنمية والثقافة والحضارة" نشرت في الشورى" في أربع حلقات ابتداءً من العدد 210 الصادر في 19 يناير 1997م وفيها تناولت علاقة التنمية بالدين من خلال دراسة تشخيصية سريعة للتنمية في عدد من دول العالم الثالث وأثبت بالدليل العملي الحاسم أن أطروحات التغريبيين المتعلقة بالدين والثقافة في علاقتهما بالتنمية ليست إلا كومة من الهراء الذي لا طائل وراءه ولا يحتوي على ذرة من الحقيقة، فمجتمعات مختلفة الأديان والثقافات والنظم السياسية حققت التنمية دون أن تتخلى عن دينها وثقافتها منها مجتمعات إسلامية كماليزيا وإندونيسيا والسعودية.
وفي تلك المقالة صنفت التغريبيين في ثلاثة اتجاهات رئيسية لا بأس من إيرادها مرة أخرى بإيجاز:
والاتجاه الأول هو اتجاه أولئك المنبهرين بالغرب الرأسمالي الذي تسود ثقافته نظرة متعالية إلى كل ما هو غير غربي، فهم يمجدون الغرب الرأسمالي باعتباره مركز الثقافة الوحيد، ومبدأ الحضارة ومنتهاها، تأسياً بالغرب الذي يجعل الثقافة اليونانية والرومانية أساسه مستبعداً إسهامات المسلمين التي لولاها ما كان الغرب على ما هو عليه. والتغريبيون من هذا الاتجاه، يدعون إلى الاندماج التام في الحضارة الغربية والثقافة الغربية على أساس القطيعة مع ماضينا الخاص وتراثنا الخاص، كشرط مسبق لتحقيق التنمية وتوطين التقنية، كما كان طه حسين في ولعه بفرنسا وأوروبا عموماً. وأمثاله كثر ينطلقون من الفلسفة المثالية التي تقول بأسبقية الفكر على المادة.
الاتجاه الثاني وهوالاتجاه الذي يستخدم المنهج الماركسي في تنميط المجتمعات الإسلامية على أساس اقتصادي، فهي في نظره مجتمعات تسود فيها العلاقات الإقطاعية أو نمط الإنتاج الأسيوي إلخ00وهو يقول عن ثقافاتها أنها تعبر عن مستوى العلاقات الاقتصادية المتخلقة التي تعيشها، وأن انتشالها من هذه العلاقات يستلزم طليعة قطعت علاقاتها بثقافتها الخاصة واعتنقت الماركسية لتتمكن من تحقيق تغيير في العلاقات الاقتصادية في بلدانها عبر التنمية ومن ثم تغيير ثقافة مجتمعاتها تبعاً لذلك.
وقد عانى جزء عزيز من وطننا من هذه النظرة المتعالية الناقصة في ذاتها وعانى أهلنا فيه الأمرين، وكما قال الدكتور أبو بكر السقاف في معرض حديثه عن التسلط الهندوسي في كشمير بحق: فـ"إن محاولات طمس الكيان الثقافي القائم في النفوس والعقول، يصبح بؤرة الغضب التي تلتقي فيها العوامل الاقتصادية والسياسية والدينية. وقد أصبحت الثقافة مناط الرجاء وسبب الغضب العارم في العقود الثلاثة من القرن الماضي سواءً بين الدول أو داخل كل دولة حيث أصبح الناس يربطون كرامتهم الإنسانية بثقافتهم، وحيث يكون الاضطهاد شاملاً تصبح الثقافة رافعة الرفض الشامل لكل ما هو قائم وتعبيراً رفيعا عن السياسي" وهذا ما فجر تلك الغضبة العارمة في أفغانستان التي أدت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفيتي فتحررت دول كانت ضمن الاتحاد السوفيتي وأصبحت من جديد عضواً فاعلاً في الوطن الإسلامي الكبير. والماركسية فكر غربي بامتياز فلا ينخدعن القارئ بتسميته المعسكر الشرقي التي كانت تطلق على الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه.
الاتجاه الثالث وهو الاتجاه النفعي (البراجماتي)، وهو اتجاه متذبذب ثقافياً وفلسفياً ويعبر عن عقيدة النظام الأمريكي واسلوبه في التعاطي مع الثقافة، فهم لا أدريون فلسفياً ويستخدمون كل شيء بما في ذلك الدين لأغراضهم، فيحاربونه إذا شكل خطراً على مصالحهم، ويتمترسون خلفه ويرفعونه شعاراً لتحقيق غايات مؤقتة، وهؤلاء هم ما ابتليت بهم كثير من أوطان المسلمين، وخاصة تلك الأنظمة التي تحكمها طغم سياسية مالية أو عسكرية أو تحالف بينهما، فلا دين ولا مثل ولا فكر، وقد عكس ذلك بوضوح أسلوب تناولهم لقضايا الأمة المصيرية، وطريقة تعاملهم مع أعدائها، وكيفية إدارتهم لأوطانهم ومصائر شعوبهم.
ومشكلة أتباع هذه الاتجاهات الثلاثة هي إن كلاً منها قد أخذ دوره في قيادة الأمة الإسلامية بمعونة الغرب؛ فقادوا الأمة إلى الهوان ومزيد من الهوان، وهم يستميتون اليوم إلى حد ممارسة الأجرام السافر كما في الجزائر لمنع الشعب من حقه في اختيار قيادته عبر صندوق الاقتراع بحجة أن الإسلاميين قد استولوا على الشارع وأنهم إذا تسنموا السلطة مرةً فلن يسمحوا بتداولها مرة أخرى. وتلك حجة مرفوضة ولا يمكن القبول بها إذ أنها تناقض نفسها مباشرة. فكيف تصر على التشبث بالسلطة منعاً للآخرين من التشبث بها. مع أن حل هذه المعضلة يكمن في تعميق الديمقراطية والفصل بين السلطة الحاكمة والدولة الدائمة وبذلك تحول مؤسسات الدولة دون التسلط الحزبي. والاستشهاد بالمثال الإيراني في هذا المقام استشهاد خاطئ ذلك أن الفكر الدستوري الذي منح الولي الفقيه ومجلس تشخيص مصلحة النظام تلك السلطات التي تعلوا سلطة الهيئات المنتخبة هو فكر فرضته ثورة عارمة قامت كرد فعلٍ على تشبث نظام الشاه بالسلطة تشبث أمثاله الذين نتحدث عنهم هنا. ولا يمكن تعميم المثال الإيراني واعتباره نموذجاً تحذوا حذوه الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي. وعلى أي حال فلن يمكن معرفة حقيقة المآل إلا من واقع التجربة وهي تجربة تمتلك مبرراتها المشروعة في حق الشعب الذي لا يمارى فيه في اختيار حكامه. وتلك هي قضية القضايا في العالم الإسلامي كله اليوم.
ولأن أوروبا والولايا المتحدة الأمريكية بقيتا في الصدارة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومعه ماركسيته فإن التغريبيين ذوي الاتجاه الثاني الماركسي قد ارتدوا ثياب الغرب الرأسمالية ونقلوا البندقية من كتف على كتف كما يقول الأخوة في لبنان.
وخطورة التغريبيين هي في أنهم لا يتحدثون إلينا من موقع المستشرق بروكلمان المتعالم المتعالي ولا من موقع الفيلسوف الغربي العنصري كما يفعل ماكس فيبر أو جون استيوارت ميل أو غيرهما. ولكنهم يتحدثون إلينا كجزء منا ناصح مشفق أو متظاهر بالنصح والإشفاق، فإن رددنا عليهم بعض ما يقولون صاحوا علينا من كل حدب وصوب: الذئب الذئب.. ذئب التكفير والإرهاب الفكري ومحاكم التفتيش إلى آخره.
ولهذا فإني أرد على أطروحاتهم بالأسلوب الذي يدعونه المثاقفة الواعية" ونترك ما يتعلق بدينهم لله خالقهم وهو أعلم بالمهتدين.
والغرب يعلم علم اليقين أن الإسلام هو سر عظمة الأمة الإسلامية فيما مضى وأساس عظمتها المستقبلية الكامن. وإنه لحمة وحدة الأمة وسداها، ولهذا نرى أن نقد المستغربين يتجه أول ما يتجه إلى الإسلام وقد عبر عن يقين الغرب هذا ورؤيته إلى حقيقة الإسلام . صمويل هونتجتون في مقالته الشهيرة "صراع الحضارات"، وهذا الكاتب لم يعد الحقيقة عندما توقع أن يكون صراع المستقبل صراعاً بين الحضارات أحد أطرافه الإسلام في مواجهة الغرب.
فمن هناك غير الأمة الإسلامية في هذا العالم من يمتلك الإمكانيات المادية والثروات الطبيعية، وخاصة النفط الذي هو بمثابة الدم في شرايين العالم الصناعي، ويمتلك الكثافة البشرية وفوق ذلك كله الفكر الشامل الذي يشكل نقيضاً مباشراً لكل تسلط وطغيان وجبروت وسفه واستغلالية الغرب الرأسمالي؟

ونحن كمسلمين علينا أن نكون على يقين من أن للإسلام رسالة في هذا العالم، وأحد جوانب هذه الرسالة هو هدم الطاغوت وإسقاطه، وقد فعلها المسلمون من قبل فأسقطوا أقوى إمبراطوريتين طاغيتين في العالم القديم وهما الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية وإذ أذكر بهذا فإني أذكر عوداً على بدء أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر المسلمين بسقوط الإمبراطوريتين على أيديهم وهو يحفر الخندق في موقعة الأحزاب والمسلمون محاصرون لا يقوى أحدهم على الابتعاد كثيراً ولو لقضاء الحاجة خشية الأعداء. ويقيني بدور الإسلام المستقبلي الذي أكاد أراه رأي العين بعين الفكر هو قول الله جل جلاله: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.. الآية".
فالأمر عقد ووعد وما هذه الأوبة المباركة إلى الله في العالم الإسلامي كله إلا من علائم تحقق الوعد الإلهي الكريم.
وإلى ذلك فالمسلمون قد عرفوا وحددوا أسلوب بناء وحدتهم في إطار الوحدات السياسية القائمة ونظرة إلى الكلمات التي ألقاها عدد من القادة المسلمين في مؤتمرات القمة الإسلامية، وهذا التقارب بين الرياض وطهران وإسلام أباد وعودة مؤتمرات القمة العربية إلى الإلتئام يدل على أن الأمة قد بلغت النضج في تلمسها لأسباب وأساليب وحدتها، فما يجمع الأمة كثير وكل ما يفرقها موحى به من أعدائها. والدين واحد ولا يختلف المسلمون إلا في تفاصيل بسيطة وليس هناك إسلام متعدد كالذي يروج له إيريك لوروا وكلودشيسون واضرابهما من الغربيين ومن تبعهم من المستغربين. وإني لموقن من أن تحقيق وحدة إرادة الأقطار الإسلامية مسالة وقت قصير ليس إلا. ولعل هذا الصلف الأمريكي الصهيوني الذي نشهده هذه الأيام - وهو ليس بالجديد في طبيعته وإن كانت الجدة في حدته - كان وسيظل العامل الحفاز (الكتاليست) بلغة الكيميائيين الذي سيؤدي إلى جمع شمل الأمة وتوحيد كلمتها. ولا أجد حرجاً هنا في الاسشهاد بمقولة للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر لها قيمة الحكمة التي هي ضالة المؤمن إذ يقول:
"كل مجتمع أو تجمع يتكون من مجموعة كبيرة من الأشخاص يسلكون سلوكاً انعزالياً تجاه بعضهم البعض لا يوجد بينهم إلا موضوع خارجي كمحل العمل أو الحزب السياسي أو مبارة كرة قدم أو صحيفة يشتركون في عادة قراءاتها كل بمفرده، وعلى الرغم من أن هناك كثيراً من الأشياء الخارجية التي تجمعهم إلا أنهم يظلون مع ذلك منعزلين لا يهتم أحدهم بالآخر، ولا أحد يساعد أحدا. فكل واحد إنما يعمل لأجل ذاته هو. والفرد في انعزاليته داخل التجمع لا يصبح أكثر من رقم في تسلسل يمكن أن يحل محله أي رقم آخر، فكل فرد هو فرد عام لا يمكن تحديد من هو اللازم من غير اللازم منهم، لأن ذلك يتطلب التحديد بناء على الخصائص الداخلية الذاتية للفرد، وهو ما لا يسعى أحد إلى معرفته عن الآخر لأنه لا يهتم به".
ويقول سارتر: "الآخر هو أنا في أعين الآخرين وفي نظر كل شخص آخر. وكل شخص في نظري هو كل واحد آخر في كل الآخرية، إنها الوحدة السلبية للكثرة من حيث أنها توجد في ذاتها".
ويضيف قائلاً: "تظهر الجماعة المتحدة عندما تتكشف السلسلة لكل فرد ولكل عضو من أعضائها أي في اللحظة التي يدرك فيها كل فرد الضعف المشترك في ذاته وذوات الآخرين في التجمع وأن هذا الضعف والعجز يلغي اختلافاتهم. عندها فقط تولد الجماعة المتماسكة.
والحادث المحرك المسبب للتغيير هو الخطر على المستويات المادية كخطر المجاعة أو الإفلاس أو خطر الإلغاء والاستبعاد أو الاستعباد. ولولا التوتر الأصلي للحاجة ما أمكن أن يحدث أي تغيير وأن تقوم له قائمة. والواقع يتجدد في حالة التجمع عن طريق استحالته، ففي لحظات الاختناق تصبح استحالة التغيير هي استحالة الحياة ذاتها. ومع أن التغيير كان مستحيلا من حيث المبدأ بسبب طبيعة التجمع المتشظية، فإن التحول يحدث عندما تصبح الاستحالة مستحيلة لأن الخطر يتجاوز كل مانع" (إنتهى).
الثابت والمتحول:
وعودة إلى المستغربين وأطروحاتهم فإني سأتناول في هذه العجالة وبقدر ما يتيحه مقال صحفي أطروحات أحد أهم المستغربين العرب وأطلقهم لساناً وأفصحهم بياناً لمقاصد المستغربين وأفكارهم وهو أدونيس في كتابه (الثابت والمتحول) وسيرى القارئ أن أطروحات المستغربين على اختلاف أقطارهم لا تخرج عما أورده أدونيس.
وقد لخص أدونيس اطرحات كتابه النقدية وعرضها في مقدمة الكتاب الضافية. يقول أدونيس "يكشف لنا الجانب الوصفي عن مسيرة الصراع بين منحى الثبات ومنحى التحول وعن الخصائص التي سادت الحياة العربية. ويحدد أدونيس هذه الخصائص - التي سأناقشها واحدة واحدة - بما يلي:
يقول أدونيس "الخاصية الأولى هي اللاهوتانية وأعني بها النزعة التي تغالي في الفصل بين الإنسان والله" ثم يركز على هذه الخاصة بخلاصة يقول فيها: "فالذهن العربي هو ذهن الفردنة التجريدية والغيبية المطلقة".
وأقوال أننا إذا نظرنا إلى هذه الخاصية وهي نقيصة في رأي أدونيس لوجدنا أن علماء النفس وعلماء الأنثروبولوجيا الذين درسوا المجتمعات البدائية والإنسان البدائي دراسة منهجية قد وصفوا العقل البدائي بالتجسيدية ووصفوا العقل المتمدن بالتجريدية (القدرة على التجريد).
يقول عالم النفس يونغ في كتابه سيكولوجيا اللاشعور ص234: "إن التجسيدية المطلقة هي صفة التفكير والشعور البدائيين اللذين يرتبطان دائماً باحساسات الحواس، ففكر الإنسان البدائي ملتصق بالمظاهر المادية وليس له وجود مستقل أو منفصل عنها، فالبدائي لا يستطيع تصور فكرة أن الشجرة المقدسة التي يعبدها هي رمز لفكرة الألوهية بل هو يرى أنها هي الإله ذاته".
وهكذا فقد امتدح أدونيس عقل الإنسان المسلم من حيث أراد أن يذمه، فمقابل التجريد الإسلامي للألوهية هناك التجسيدية المسيحية التي رأت في المسيح عليه السلام الإله ذاته الذي رآه البدائي في الشجرة المقدسة. فلا عجب والحالة هذه أن ينصرف ذوو العقول من المسيحيين عن هذه المسيحية التجسيدية.
وإذا كان لي أن أضع تصنيفاً للأنماط الرئيسية للتفكير الإنساني فإني سأضعه هكذا:
• التجسيدية البدائية.
• التجسيدية الوضعية المادية أو المنطقية والتي انصرفت عن الدين والفلسفة معاً لتقول بالحس وأصبحت فلسفة العلم الحديث.
• التجريدية الدينية التي أتت بها الأديان السماوية.
• التجريدية الفلسفية ومنها من عرف الله ومنها من أنكره.
وإذا أردنا وضع تحقيب زمني لهذه الأنماط لوجدنا أن التجسيدية من عبادة الطواطم ومظاهر الطبيعية إلى عبادة الأشخاص تمتد من أقدم العصور إلى أيامنا هذه، كما نجدها في التجسيدية المسيحية وكما نجدها أيضاً في الماركسية والنازية والفاشية.
وكذلك فإن التجريدية الدينية موغلة في القدم منذ أول رسول بعثه الله وإلى يومنا هذا.
وكذلك القول في الفلسفة التجريدية والتي ابتدأت فيما نعلم في القرن السادس قبل الميلاد في اليونان ، وهي الفلسفة والحضارة التي كانت الحضارة المصرية وقبلها حضارات ما بين النهرين في العراق قد سبقتها بعدة ألوف من السنيين. ولاتزال الفلسفة التجريدية ومدارسها المثالية والطبيعية وتفرعاتها مستمرة إلى يومنا هذا.
وكما رأينا فإن هذه الأنماط متداخلة في تاريخ الإنسان، ولا يمكن تحقيبها زمنياً، وهو ما يقود إلى استنتاج لا مفر منه وهو: أن أنماط التفكير هذه تعبر عن خصائص إنسانية عامة وليست سلماً تطورياً كما قال دوركهايم، وهي على ذلك تصبح تكاملية وليست تناقضية.
ولعل مصدر شقاء الإنسان الغربي المعاصر مرده إلى عجزه عن التعامل مع نمطي الفكر هذين واستيعابهما في كل واحد متناغم. فالوضعية المنطقية والبراجماتية وهما عقيدتا المجتمعات الغربية.. يقولان في ميدان الأخلاق بنسبية الأخلاق وتطوريتها. ويقول هيجل في كتابه أصول فلسفة الحق ترجمة الدكتور عبد الفتاح إمام "الدولة تنطوي على الحاجة إلى ثقافة وبصيرة أكثر عمقاً من التفكير السطحي الذي حين ينظر إلى النظام الأخلاقي ينطلق من القواعد السطحية التي تجعل الحق يعتمد على الغايات الذاتية والآراء الجزئية، وهي المبادئ التي تؤدي إلى انهيار المحبة والحق القائمين بين الناس بقدر ما تحطم النظام العام والقانون البشري. إن هذه الوجهة من النظر (أي النسبية والتطورية) تسلم عالم الأخلاق إلى غرضية الآراء وذاتيتها وإلى الصدفة والهوى كدليل على التفكير السطحي المسف الذي يقيم العلم الفلسفي على الإدراك الحسي المباشر لا على تطور الفكر والفكرة الشاملة".
ويضيف هيجل "أن الاستبداد في الدولة الرومانية الغي الفرق بين الفضيلة والرذيلة وبين الشر والخير وبين العلم والجهل، وكانت نتيجة عملية التشويه والتسطيح هذه أن أصبحت التصورات عما هو حق وكذلك عن قوانين الأخلاق لا تعدو مجرد آراء واقتناعات ذاتية، وعلى هذا النحو يصبح لأسوأ المبادئ الإجرامية نفس قيمة القوانين ما دامت هي الأخرى اقتناعات ذاتية".
ونجد :أن الفلسفة المثالية بكل مدارسها اتفقت في ميدان الأخلاق"أنه لا يوجد إلا قانون واحد صحيح يسري على كل البشر قديمهم وحديثهم وعلى اختلاف أجناسهم فما كان شراً لازال وسيظل شراً وما كان خيراً لازال وسيظل خيراً" راجع هنترميد" الفلسفة أنواعها ومشكلاتها. ترجمة د. فؤاد زكريا ص265.
وقد جاء الإسلام بأن دين الله واحد لا يتبدل وأن التشريع واحد لا يتبدل، فهو تبارك وتعالى يقول في سورة المائدة: "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة وفيها حكم الله" الآية 43 المائدة.
ويقول تعالى "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" المائدة 48.
ولكن آفة اليهود والنصاري هي أنهم حرفوا كتاب الله الذي أنزل إليهم فزوروه وجعلوا الكنيسة والرهبان والحاخامات وشروحاتهم في مقام الوحي واتخذوهم أرباباً من دون الله.
يقول الكاهن الفرد لوازي الأستاذ في المعهد الكاثوليكي بباريس ثم في الكوليج دوفرانس "إن أسفار موسى الخمسة لا يمكن أن تعد من عهد موسى والفصول الأولى من سفر التكوين لا تحتوي على تاريخ دقيق وحقيقي لأصول الإنسانية، والنصوص الكتابية نسبة إلى الكتاب المقدس لها تاريخ ولها تطور، وأسفار موسى الخمسة من عمل أجيال متعاقبة أغنت وغيرت في النصوص القديمة وهي تنسخها، وأناجيل متّى ومرقص ولوقا ولدت بهذه الطريقة هي الأخرى، والأناجيل تفسر المنقول بتصرف شديد. أما الكاثوليكي فيرى بأن الحقيقة لا يمكن أن تستخلص من الكتاب المقدس بواسطة العقل الفردي الخالص، بل أن الكنيسة هي المفسرة الشرعية له" راجع مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، تأليف ج. بنروبي ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي ص385 الجزء الثاني.
وهكذا فإن الإسلام بنصوصه الصحيحة والتي لم ولن تتنافى مع العلم وبشموله لكل نواحي الحياة الإنسانية والفكر الإنساني هو العاصم للإنسان من التمزق الفكري والشقاء الفكري الذي يعاني منه الغرب أشد المعاناة. وهو يضم إلى التجريد التجريب بل ويحض عليه "قل سيروا في الأرض فانظروا" الأنعام الآية 11.
وعود إلى الخاصية الأولى من خصائص الحياة العربية عند أدونيس نجده يختتمها بهذا التعريف البذيء للإنسان العربي وهو يعني الإنسان المسلم. يقول أدونيس: "يسود مستويان من الثقافة في المجتمع العربي: ثقافة تمجيد النظام الراهن الموروث وثقافة التناسل والأكل. والعربي في الحالين محصور في المستوى الآلي الحيواني للحياة الإنسانية".
ورغم أن هذا الطرح كلام ساقط لا يستحق حتى عناء الرد عليه فلا بأس من مناقشته بسرعة لإظهار مدى سخفه.
أولاً: يشهد التاريخ الإسلامي أنه كان حلقة متصلة من الثورات على الجور والجائرين منذ أن اقتبس معاوية النظام الروماني البيزنطي واتخذه شكلاً للدولة الإسلامية وهكذا جاءت مصيبتنا القديمة من التغريب الذي يريد لنا أدونيس أن نكرره.
ثانيا: يشهد التاريخ أن الثقافة الإسلامية التي تتمحور حول الدين الإسلامي وتنطلق منه قد أبدعت في مجالات شتى ولا ينكر إبداعاتها حتى أكثر المستشرقين عداء للإسلام والمسلمين.
ثالثاً: يشهد التاريخ أن ثقافة الأكل والتناسل هي جزء من الثقافة الغربية المعاصرة ولم يتناولها المسلمون إلا في معرض الحث على الزهد وفضائل الاعتدال ما عدا اتباع الحكام والسلاطين الجبابرة الذين انحرفوا عن الإسلام.
أما الغربيون فيشهد عليهم هذا الكم الهائل من الأفلام والمجلات الخلاعية واستخدام مفاتن المرأة في التجارة والدعاية وكتب الطبخ ووسائله التكنولوجية، بل إن المجتمع الغربي هو مجتمع الاستهلاك وثقافته ثقافة الاستهلاك باتفاق الجميع.
يقول أدونيس: "الخاصية الثانية على الصعيد الحياتي والنفسي هي الماضوية والإنسان العربي "المسلم" يشعر أن وجوده يتوقف على استمرار الرموز الماضوية ومنظوماتها. وفي هذا ما يفسر إيمان الإنسان العربي بأن الإنسان لا يقدر أن يتكيف إلا مع الأشياء والأفكار التي يستطيع خياله أن يجاريها، أما تلك التي يعجز عن تفسيرها فنه يرفضها ولا يواجهها".
وأقوال أن تمسك الإنسان المسلم بالنموذج الماضوي له مبرراته القوية. فالنموذج السياسي/ الاجتماعي/ الأخلاقي الذي أوجده الإسلام في عهد النبي (ص) وخلفائه الراشدين نموذج يعبر أفضل تعبير عن أشواق الإنسانية إلى العدل والإخاء والمساواة حتى في علاقة الأرقاء بسادتهم. وهو نموذج قابل للتكرار بشرط واحد وهو أن يعتصم الإنسان بالوحي فيتمكن من السيطرة على نوازعه الحيوانية التي تطلقها الحضارة الغربية من كل عقال.
ويتميز النموذج الإسلامي الماضوي بأنه لا يعبر عن مجهول وإنما عن تجربة تمت على صعيد الواقع وأثبتتها سجلات التاريخ فكراً وسلوكاً ونظاماً وعملاً وليست مجرد حلم راود أوهام الشعراء وخيالات الفلاسفة. بل واقعا صلباً عاشه الإنسان البدوي البسيط الجاهل المتوحش الذي جعل منه الإسلام أداة صناعة ذلك الأنموذج الحلم الذي لم يكن يوتوبيا أفلاطونية ولا ماركسية واللذين لم يرهما أحد ولن يراهما على الأرجح.
أما الجزء الثاني من مقولة أدونيس عن عجز المسلم عن قبول الأفكار المجردة فهو إلى تناقصه مع ما سبقه في الخاصية الأولى، فإن الجواب عليه هين وهو أن قبول المسلم بالله وإيمانه به وهو لا يراه ولا يشبهه. وقبول المسلم بالإسراء والمعراج يكفيان تماماً لدحض مقولة أدونيس، فإن قبل المسلم بهذين أيعجز عن تقبل فكرة الأمواج المغناطيسية أو نموذج الذرة؟ وهما بالمناسبة فكرتان لا تقلان تجريداً عن ذينك.
يقول أدونيس: (الخاصية الثالثة على صعيد التعبير واللغة) ويورد فيها عناصر متعددة بأخذها على العقل المسلم فصلتها فيما يلي:
أ- الفصل بين المعنى والكلام واعتبار المعنى سابقاً على الكلام.
ب- تغير وظيفة الشعر في الإسلام وعدم تغير شكله.
جـ- اكتساب اللغة الجاهلية والشعر الجاهلي بعداً دينياً لأن إعجاز القرآن تحدى الشعر الجاهلي.
د- القول بما أن الحق عقلي منطقي فإنه يجب استبعاد التخيل واستبعاد المجاز.
هـ- تفضيل الشعر القديم على الحديث، فكما أن التدين تكرار طقسي، فالشعر نوع من التمرس بفهم الماضي واستعادته في تكرار طقسي.
و- نفي إمكان تحديد الشعر بالحاضر ونفي تحديده بالمستقبل ونفي الجدوى من كتابة الشعر إلا إذا كان استعادة للماضي وهذا يؤدي إلى إلغاء الشعر. (إنتهى)
ومن الواضح أن تعدد مآخذه في الخاصية الثالثة يرجع إلى كون أدونيس شاعراً، وعلى الرغم من ذلك سيتضح لنا أن مقولاته هنا أسخف حتى مما سبقها.
فبالنسبة إلى (أ) من الواضح أن أدونيس يتحدث وفي ذهنه الأشكال الحديثة من المدارس الأدبية والنقدية والفنية المعاصرة والتي يترك فيها للمتلقي أو القارئ استخلاص المعنى من النص أو الرسم أو المنحوتة التجريدية.
وقد عرف الفن الإسلامي هذا الضرب من الفن قبل الغرب بمئات السنين. فالأشكال النباتية الزخرفية في الفن الإسلامي أعمال تجريدية بامتياز.
أما الأدب العربي المعاصر فقد طور وجهة النظر هذه ونقلها إلى الأدب المكتوب شعراً ونثراً فلم يتخلف في ذلك عن نظرائه في الغرب إلا في الكم. فلا مكان كما نرى لمأخذ أدونيس هذه ولا مصداقية لها.
أما ما ورد في (ب) فهو محض اختلاق من أدونيس، فأغراض الشعر لم تتغير ولن تتغير طالما ظلت تعبيراً مكثفاً عن مشاعر الإنسان ودخيلته وشجونه وما ظل الإنسان إنساناً لم يتغير، فهو هو، وهي هي. وأما الشكل فقد شهد تطوراً وهذا ثابت تاريخياً في شعر العذريين وشعر العصر العباسي الثاني وشعر عصور الانحطاط ثم في الشعر العربي المعاصر. ومن شاء فليرجع إلى مؤلفات الأستاذ شوقي ضيف.
وبالنسبة إلى ما ورد في (جـ) فمن نافلة القول أن القرآن لم يتحد الشعر والشعراء، وإنما تحدى البشر أن يأتوا بمثله أو بسورة ولم يخص الشعر أو الشعراء بل إنه لم يعن بتجنب تشابه ألفاظ فيه ورد شبيه لها في الشعر الجاهلي كقول الخنساء في الجاهلية:
أبعد بن عمر من آل الشريد حلت به الأرض أثقالها
وقولها:
فخر الشوامخ من فقـده وزلزلت الأرض زلزالها
هممت بنفسي كل الهموم فـأولى لنفسي أولى لها
أو قول حجر بن عمرو بن معاوية الكندي (آكل المرار):
آتاك المرجفون برجم غيب على دهش وجئتك باليقين
وقول الأسلع بن القصاف:
فما الناس أردوه ولكن اقــاده يــد الله والمستنصر الله غالب
شفى الداء وأبيضت وجوه كأنما جلا النفس عنها وهي سود كوائب

وقول عبد الله بن جعدة الكلابي:
فلنقتلن بخالد سرواتكم ولنجعلن للظالمين نكالاً

وقول دخنتوس ابنة لقيط بن زرارة:
كالكوكب الدري في الظلماء لا يخفى بها

وقول عنترة العبسي:
وإذا ما الأرض صارت وردةً مثل الدهان

وقول علقمة بن عبدة:
إذا علموا ما قدموا لنفوسهم من الشر إن الشر مرو أراهطا

وقول أمرئ القيس:
ومن الطريقة جائرٌ وهدىً قصد السبيل ومنه ذو دخل

ولا تكاد تجد في شعر أيام العرب في الجاهلية غير هذه الأبيات وردت فيها جمل تشبه ما في القرآن. ولعل البعد الديني الذي تخيله أدونيس للشعر الجاهلي يرجع إلى رفض المسلمين محاولة الدكتور طه حسين التشكيك في أصالة الشعر الجاهلي، في كتابه الشعر الجاهلي، واعتبارهم محاولته تلك مدخلا للتشكيك في أصالة القرآن الكريم، وإدعاء اصطناع المتأخرين له، ونسبتهم إياه إلى المتقدمين.
أما ما أورده في (د) فيكفي اعترافه بأن العقل المسلم يرى أن الحق عقلي منطقي أما استبعاد التخيل والمجاز فالشعر العربي منذ صدر الإسلام إلى اليوم يكذبه بوضوح لا مزيد عليه.
أما ما أورده أدونيس في (هـ) فالمسألة مسألة ذوق، فأنا مثلاً أرى أن الشعر الجاهلي جيد كله وفيه روائع ليس لها نظير، إلا أن من الشعر في العصرين الأموي والعباسي وحتى الشعر المعاصر ما لا يقل عن الشعر الجاهلي روعة وجمالاً.
أما حكاية التكرار الطقسي، فإن التدين في الإسلام ليس تكراراً طقسياً صرفا بل هو صراع مستمر بين الهوى والواجب المتمثل في اتباع وسلوك سبل الحق، ولا يمكن أن يكون صراع كهذا مجرد تمرس بمحاكاة الأول، بل إنه تجربة متجددة بتعدد الأفراد من المسلمين. ولهذا السبب بالذات كان الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان لأنه يخاطب جوهر الكينونة الإنسانية في الفرد. وبالمثل فإن الشعر الذي يبدعه المسلمون إنما هو تجربة متجددة بتعدد القصائد.
أما مقولة أدونيس التي في (و) فإنها لا معنى لها وواضحة السخف والتفاهة، فلا أظن أن في العالم كله من الشعراء ما لدى العرب، فأين ومتى تم إلغاء الشعر؟
يقول أدونيس "والخاصية الرابعة على صعيد التطور الحضاري هي التناقض مع الحداثة الغربية، فهو (أي الإنسان المسلم) يأخذ المنجزات الحضارية الحديثة ولكنه يرفض المبدأ القبلي الذي أبدعها، والحداثة الحقيقة هي في الإبداع لا في المنجزات بذاتها، فهو إذن يرفض الحداثة الحقيقية".
لقد أثبت في مقالتي (الإسلام والثقافة والحضارة والتنمية) مستخدما منهجاً وضعياً لتحليل الظواهر لاكتشاف قوانينها العقلية، أي علاقاتها الثابتة في التوالي والتشابه وهو ما يسمى بالمنهج الإكلينيكي لتشخيص الحالات بوصف الأعراض: أن التنمية تتم في مجتمعات متباينة الثقافة ولا تستلزم شروطا مسبقة من الناحية الثقافية كما يدعي المستغربون وأن هناك عوامل خمساً مشتركة هي التي تؤثر حصراً في إمكانية إنجاز عملية التنمية وتوطين التكنولوجيا وهي:
• أنظمة تعليم ممتازة وخاصة الفنية والمهنية وفي العلوم والرياضيات
• توفر رأسمال كاف عن طريق جلب استثمارات خارجية أو استخدام دخل الموارد الطبيعية بحصافة.
• تحقيق الاستقرار السياسي الداخلي والخارجي عن طريق تجنب السياسات المغامرة داخلياً وخارجياً. الأمر الذي يؤدي إلى الاستغناء عن الإنفاق العسكري الكبير وتوجيه الموارد بدلاً من ذلك إلى التنمية.
• التركيز على الأولويات الصحيحة كالزراعة والصناعات الخفيفة التصديرية، ثم بعد اكتساب الخبرة والتراكم الرأسمالي الكافي يتم الانطلاق إلى صناعة الإلكترونيات المتقدمة والصناعات الثقيلة.
• إتباع مزيج متوازن من اقتصاد السوق الحرة والتخطيط الاقتصادي.
وفيما عدا ذلك فإن ما يطلبه المستغربون ليس إلا من باب لزوم ما لا يلزم، وأهم ما يتعلق بالبعد الثقافي وأثره على التنمية هو المحتوى الذي يصبغ به المجتمع المعني، سواء في العلاقات بين الشرائح والطبقات الاجتماعية المكونة للمجتمع أو علاقة الفرد بالمجتمع والدولة وموقعه فيهما وحقوقه وواجباته إزاءهما، وعلاقة الدولة بالمجتمع كسلطة، وعلاقتها بالدول الأخرى. وكلها إشكاليات ينبغي حلها حلاً ديموقراطياً في غمار العمل السياسي السلمي من أجل الديمقراطية والتي يأتي الحل سلمياً من خلال آلياتها. وقد أثبت التاريخ المعاصر المشاهد بما لا يدع مجالاً للشك أن التخلف الاقتصادي والعلمي والتقني لا يمكن أن يعزى إلى الموروث الثقافي لأي مجتمع، ذلك أن كل مجتمع بما هو إنساني، قابل للتكيف واكتساب المهارات التي تتناسب مع توجهه الاقتصادي أو الحضاري عموماً ومع مستوى تطوره دون أن يكون للثقافة الموروثة والدين منها بالذات أي أثر معيق أو سلبي بل إن السياسات المحاربة للثقافات الموروثة هي التي أثرت سلباً على التنمية بسبب ما أثارته من صراعات غير مجدية. فالهند الهندوسية تشهد نهضةً واسعة وكذلك الحال في ماليزيا المسلمة ودول الخليج العربية كما هو الحال أيضاً في مجتمعات أخرى تتبع الكونفوشية أو تدين بالبوذية وإلى جانب ذلك هناك دول مسيحية متخلفة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ولم تجدها (الفضائل البروتستانتية) التي عزى ماكس فيبر إليها فضل تقدم أوروبا. كما أن جهود علمنة تركيا لم تكن ذات فضل عليها ولم تؤد بها إلا إلى صراعات أثنية وسياسية وثقافية عميقة تهدد مستقبلها بأخطار جسيمة.


في الإثنين 24 فبراير-شباط 2014 06:02:04 م

تجد هذا المقال في وفاق برس
http://wefaqpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://wefaqpress.com/articles.php?id=906&lng=arabic