|
و مما يثير الاستغراب ان الخلاف على هذا الموضوع ليس له اهمية على الارض الواقع. بمعنى انه لو تم حسمه لما تغير الواقع كثيرا. و لكن اهميته تكمن في انه قد مكن الفريقين من التمترس ورائه نظرا لما لذلك من جاذبية ديماجوجية. اي انه يمكنهما من حشد الانصار و تبرير التصرفات غير المقبولة.
لقد ترتب على هذا التمترس ان بلغ التعصب بين الفرقيقين اعلا درجاته. و نتيجة لذلك لم يعد كل فريق يسمع اي شيئ يقوله او يطرحه الفريق الاخر تحت اي ظرف من الظروف. و ما يجري في الوقت الحاضر مما يطلق عليه حوارا ينطبق عليه في حقيقة المثال القائل حوار الطرشان.
ان الاستمرار في ذلك يعني ان كلا الفريقين يخدعان انفسهما و بعضهما البعض. فكل المؤشرات تدل ان لا فريق سيقبل بما سينتجه اي حوار كهذا اذا قدر له ان ينتج اي شيئ. و لا شك ان ذلك يمثل اقصى درجات العبثية. ففي نهاية الامر فلن يحسم اي شيئ الا من خلال القوة.
و لذلك فان هد هذه المتاريس سيتيح للجميع ان يناقشوا و يتحاوروا على الموضوعات الاكثر اهمية و هي التعايش و التطور و التقدم اي البحث عن حلول فعالة لمشاكل واقعية تؤرق مضاجع الجميع.
ان نقطة البداية في هد هذه المتاريس هي ادراك حقيقة العلاقة بين كل من الدين و السياسة. و من اجل توضيح ذلك فقد مثلت للعلاقة بينهما كالعلاقة بين الانسان و الحيوان. الانسان كائن حي. اي انه كان ميتا فأصبح حيا. و كذلك الحيوان. و الانسان يموت و الحيوان كذلك. الانسان يحتاج الى متطلبات للحفاظ على حياته مثل الاكل و الشرب و الحيوان كذلك. لكن كل ذلك التشابه لا يبرر القول بان الانسان حيوان و الحيوان انسان. فالإنسان انسان و الحيوان حيوان.
يتميز الانسان عن الحيوان بقدرته على الاختيار. الحيوان يعرف فقط ما يكفي من اجل البقاء على قيد الحياة. اي انه يعرف الطعام المناسب له و القدر الكافي له و كيفية الحصول عليه. انه يعرف كيف يحافظ على نسله. اما الانسان فانه يعرف اكثر من ذلك. فهو على سبيل المثال يفرق بين الانواع المختلفة من الطعام و عندما تتاح له عملية الاختيار فانه يفضل بعض انواع الطعام على غيرها. انه يفرق بينا اشياء كثيرة في الحياة فيعمل على الحصول على افضلها.
تميز الانسان على الحيوان لان الله قد اعطاه العقل و لم يعط الحيوان ذلك. فالعقل هو القدرة على المقارنة بين الاشياء و الاحوال و الظروف و اختيار الافضل منها. لكن الاستفادة من العقل ليس شيئا حتميا. فالإنسان اذا اراد الاستفادة من العقل تمكن من ذلك و اذا لم يرد فلم يستفيد من ذلك. و في هذه الحالة فان الانسان و الحيوان يكونان سواء بل ان الانسان يكون اضل من الحيوان. يقول الله تعالى في سورة الانفال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23). و في سورة الاعراف وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179).
اذن فان الانسان اما ان يكون انسانا حقيقا عندما يستخدم عقله و اما ان يكون حيوانا عندما لا يستخدم ذلك. ان ذلك ينعكس بشكل او بأخر على كل من الدين و السياسة. فالدين و السياسة هما ظاهرتان انسانيتان و بالتالي فان هما اما ان يكونا نابعين من الانسان الانسان او من الانسان الحيوان.
و في نفس الوقت فانه لا يمكن القول بان لا توجد علاقة من اي نوع بين الانسان و الحيوان. فعلى سبيل المثال ما كان للإنسان ان يبقى على قيد الحياة لولا و جود الحيوان. فالحيوان هو مصدر الغذاء للانسان. فالانسان لا يقدر على انتاج ما يحتاجه من غذاء في داخله و لذلك هو معتمد على الحيوان. صحيح ان الحيوان يعيش على النباتات و على بعضه البعض لكن لن يكون له اي قيمة على الاطلاق فوجوده و عدمه سواء. فمن لا ينتج الا نفسه فوجوده و عدمه سواء.
و كذلك الامر فيما يخص كلا من الدين و السياسة. فقبل وجود الانسان لم يكن هناك لا دين و لا سياسة. اذن وجود كل منهما مرتبط بالإنسان. و من ثم فان اي دين او سياسة لا يفيد الانسان فهو دين و سياسة ميتة. الانسان هو الذي يعطي للدين و للسياسة الحياة من خلال توفير المتطلبات الضرورية لذلك. فان اصبح كل من الدين و السياسة غاية و ليس وسيلة فان ذلك سيؤدي الى موت الانسان و بالتالي موت كل من الدين و السياسة.
المقصود بالدين هنا احتياج الانسان الى من يفوقه في كل من العلم و القدرة. و في هذه الحالة فانه لا تناقض بين كون الانسان انسان يمارس كل ما يمتلك من قدرات و بين احتياجه الى من هو اكبر منه قدرة و علما. يحدث التناقض في حال إهمال الانسان لقدراته و طلبه من الاله ان يعوضه عن ذلك او في حال ان يطلب الاله من الانسان ان لا يمارس ما اعطاه من قدرات لصاح الاعتماد عليه كليا. و في هذه الحالة يتم الخلط بين الدين و السياسة.
في الواقع يوجد اديان متعددة. من ضمنها دين حق هو الذي يتوافق مع الفطرة. فما عداه فهي اديان باطلة لأنها تتعارض مع الفطرة. الفطرة هنا ان الانسان لديه بعض القدرات و لكنها لا تفي بكل حاجاته و لذلك فهو يحتاج الى اله قادر ليقوم ذلك. اما الاديان الباطلة فهي تحاول ان تحل محل الاله الحق او محل الانسان. اذن فهي تقوم على الهة ضعيفة لا تعلم و لا تقدر او انها تجعل الانسان الها لأخيه الانسان.
و ما من شك ان الدين الباطل ضرره اكبر من نفعه و بالتالي فعدمه افضل من وجوده. بمعنى ان عدم الايمان بالدين الباطل افضل من الايمان به. و لذلك كانت العلمانية في الغرب افضل من الدين. لكن الدين الحق افضل من العلمانية و من الدين الباطل. الدين الحق هو الذي يقوم على الانسان بين الحقوق و الواجبات.
الطاعة في الدين تنبع من المحبة و ليس من المصلحة. فالله تعالى لا يعاقب في الدنيا و انما يعاقب في الاخرة. و بما ان الاخرة ليست حاضرة فان عامل العقاب قد لا يكون دافعا للطاعة. اما عامل المحبة فان حاضر و بقوة و بالتالي فانه هو مصدر الطاعة. فغير الله من اله فهم غير قادرين على خلق المحبة و من ثم فان طاعتهم تنبع من القوة و الاكراه و اجبار. يقول الله تعالى في سورة البقرة وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165).
السياسة ضرورة في حال التجمع الانساني. و تنبع هذه الضرورة من حقيقة ان قيام الاجتماع قد خلق ظروفا جديدة ترتب عليها وظائف جديدة. هذه الوظائف اذا قام بها كل افراد المجتمع فان الاجتماع يكون ضررا و يكون من الافضل منه ان يتفرق الجمع.
لقد حل الانسان هذه المشكلة من خلال السياسة اي ان تحدد هذه الوظائف و يوكل القيام بها الى بعض الناس و ليس الى كل الناس يقوم بهذه الوظائف بصفتهم مكلفين من الناس لا باعتبارهم افرادا من افراد المجتمع. ان ذلك يحتاج الى توازن دقيق و الا اختلت الامور. بمعنى اذا اوكلت الوظائف العامة الى الافراد باعتبارهم افرادا فان هؤلاء سينافسون الافراد و بالتالي تتحول السياسة الى ظلم. و كذلك يكون الامر اذا اوكلت الوظائف الفردية الى رجال السياسة.
فالفوضى اي ان يقوم الافراد بما كان يجب ان تقوم به السياسة افضل من الدكتاتورية اي ان يقوم فرد كسياسي بكل الاعمال الفردية و السياسية. لكن السياسة المنضبطة افضل من الفوضى و الدكتاتورية. السياسة المنضبطة هي التي توازن بين الحقوق و الواجبات.
الدين الحق لا يحتاج الى قوة لفرضه و لا للحفاظ عليه و لا للوفاء بالتزامات المترتبة عليه. يقول الله في سورة الفتح هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28). اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْه فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35).
الدين غير الحق هو الذي يحتاج الى القوة و من ثم فانه يتحالف مع السياسة المنضبطة. اما الدين الحق فهو لا يحتاج الى ذلك و من ثم فانه لا يقبل السياسة غير المنضبطة.
الطاعة في السياسة تنبع من المصالح و المقصود هنا بالمصالح المصالح المشروعة اي التي يقر المجتمع. يقول الله تعالى في سورة الكهف حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88). و لذلك فان الطاعة في السياسة تحتاج الى قوة. فبدون القوة فانه لا يمكن اجبار بعض الناس على الوفاء بما التزموا به.
حقيقة كلا من الدين و السياسة يتضمانان واجبات و حقوقا. فالواجبات لها معنى عندما يكون من الممكن اختيارها اي القبول بها او رفضها. و الحقوق يكون لها معنى اذا ارتبطت بالواجبات. و نتيجة لذلك فان امام الانسان خيارات متعددة من الواجبات و الحقوق سواء فيما يتعلق بالواجبات و الحقوق الدينية او السياسية. و في هذه الحالة فان على الانسان ان يختار احد الخيارات المتاحة له وفقا للنتائج المرغوبة و غير المرغوبة لهذه الخيارات.
فما من دين الا و يحتوي على واجبات و حقوق يترتب على القيام بها او عدم القيام نتائج سلبية او ايجابية و كذلك فما من نظام سياسي الا و يقوم على واجبات و حقوق يترتب على القيام بها او عدم القيام بها ناتائج سلبية او ايجابية. و من هذه الزاوية فانه يمكن القول بان هناك تشابها بين كل من الدين و السياسة. لكن هذا التشابه لا يبرر ان يكون الدين و السياسة شيء واحد. فالواجبات و الحقوق الدينية يحددها الاله. اما الواجبات و الحقوق السياسة يحددها الانسان. بما ان الاه غير الانسان فان واجبات و حقوق الدين غير الحقوق و الواجبات السياسية.
فكما ان هناك تفاوت بين كل من الحقوق و الواجبات الدينة فان هناك تفاوت و بين الحقوق و الواجبات السياسية. الدين الحق هو الذي يقوم على اساس حرية الاختيار و بالتالي فان حقوقه وواجباته تختلف جذريا عن حقوق وواجبات الاديان الباطلة. الدين الحق ينبع من عاطفة الحب و لذلك فهو فردي. الناس لا يحبون نفس الاشياء و الامور و انما يختلفون كثيرا فيما يحبون و فيما يكرهون. فتوحيد الحب اي الدين يعني تحويل الدين من اساسه اي الاختيار و الحب الى اسس اخرى تتناقض تماما مع طبيعة الدين. و في هذه الحالة فانه يمكن القول بان هناك انسجاما اكبر بين الدين الحق و السياسة المنضبطة. اما الدين الباطل فهو يقوم على اساس الاكراه. و في هذه الحالة فان هناك قدرا من الانسجام بين الدين الباطل و الدكتاتورية.فكلاهما يمثل الطاغوت.
السياسة المنضبطة تقوم على اساس الاختيار المنضبط. ان هذه الازدواجية في السياسة قد جعلتها لا تتطابق تماما حتى مع الدين الحق لكنها ليست متنافرة معه. فالسياسة المنضبطة لا بد و ان تنبع من اختيار الفرد لكن هذا الاختيار قد يتحول الى اكراه في وقت من الاوقات و ذلك بخلاف الدين الحق الذي لا اكراه فيه. فعندما لا يكون الانسان قاتلا فانه سيفضل معاقبة القاتل. لكن موقفه هذا قد يتغير اذا كان هو القاتل. فحتى لا يسمح للناس بتغير مواقفهم من القضايا الاساسية للتعايش فان مجرد الموافق الاولية تكفي و لا يسمح له ان يغير راية الا اذا تغير رأي من لم يقترف الفعل المجرم.
اما الدين الحق فانه يسمح للإنسان ان يغير دينه. فذلك لا يهدد الدين و انما يضر بالإنسان نفسه و بالتالي فانه لا يؤثر على الاخرين سلبا بأي شكل من الاشكال. يقول الله تعالى في سورة البقرة لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257).
لكن السياسة المنضبطة لا تسمح بذلك فإذا غير القاتل رأيه بعد ارتكابه لجريمة القتل و عارض عملية القصاص فانه بذلك سيحمي نفسه و سيعرض حياة الاخرين للخطر. هذا من ناحية و من ناحية اخرى ان السماح له بذلك سيجعل الباقين يميلون الى ممارسة القتل. و لا شك ان ذلك سيجعل الجميع يعيشون في ظل خوف دائما. و لذلك فلا مجال هنا للحرية المطلقة.
من التحليل السابق يتضح ان كلا من الدين سواء الحق او الباطل و السياسة سواء المنضبطة او غير المنضبطة غير قابلين للتحديد من داخلهما. بمعنى ان الدين الحق يمكن ان يتحول الى باطل و لكن ليس العكس. فالدين الباطل لا يمكن ان يصلح و يتحول الى دين حق. و في نفس الوقت فان السياسة المنضبطة يمكن ان تتحول الى سياسة غير منضبطة و ليس العكس.
ان النجاح في ارساء دين حق لا يعني ان ضمان استمرار ذلك الى قيام الساعة. فهناك يظل دائما احتمال تحول الدين الحق الى دين فاسد. الدين الحق هو علاقة بين الله و بين عباده و لا يستطيع احد ان يطلع هذه العلاقة سواء الله و العبد. و في حالات عديدة هناك من ادعى انه على الدين الحق لكن الله كذب هذا الادعاء. يقول الله في سورة التوبة إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143). و يقول في سورة المنافقين إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4).
فلا ضمانة تنتج من تولي المتدين لا للحفاظ على الدين الحق و لا لتحقيق العدالة. و من ثم فان اعتبار حكم المتدين ضرورة للحفاظ عليه او للحفاظ على الحياة هو في حقيقة الامر اداء باطل.
فالتاريخ يشهد على حالات عديدة انحرفت فيها اديان كبيرة. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53). و يقول الله تعالى في سورة البقرة وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79). انَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176).
بل ان القران قد اورد اشارات كثيرة على امكانية حدوث مثل ذلك في الامة الاسلامية. يقول الله تعالى في سورة الانعام إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159). و في سورة الروم فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32). و في سورة الحديد أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17). و في سورة النحل وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (96).
و نتيجة لذلك فان الاشتباك بين الدين و السياسة ظل امرا مورقا للإنسان على مدى التاريخ. من يستقرا التاريخ سيجد امثلة لا حصر لها لتحول الدين الى سياسة و السياسة الى دين. فقد استخدم الدين من اجل تبرير ظلم الناس و اخضاعهم لهم بشكل بشع يتناقض مع ابسط قواعد الدين. و من اجل ذلك فانه لا بد من التميز بين الدين الحق و الدين غير الحق. الدين الحق هو من يحافظ على حرية الانسان في الاقتناع بالدين الذي يرغب به. اما ان يجبر الناس على الدخول في اي دين من اديان فان ذلك يتحول الى طاغوت اي الى نوع ظالم من السياسة. و في سورة النساء أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا (50)
و هناك كثير من الانظمة السياسة التي تحولت الى دين باطل من اجل ظلم الاخرين. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6). فقد تمكن فرعون من استخدام الدين لجعل قومه يطيعوه في ظلم بني اسرائيل. فلولا الخطاب الدين لما قبل المصريون الممارسات الظالمة التي كان فرعون ومالئه يوقعها على بني اسرائيل.
و من المفارقات التاريخية فان نبي اسرائيل فيما بعد قد استخدموا الدين لتبرير ممارساتهم السياسة الظالمة. يقول الله في سورة الاسراء وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8).
فلم يمنع ما انزله الله على نبني اسرائيل من الكتاب في منعهم من ممارسة الظلم فيما بعد. فقد تمكن بني اسرائيل من تحريف كلام الله و تبرير الظلم و الاستعباد لغيرهم.
و بما ان الانسان يحتاج الى كل من الدين و من السياسة فانه كذلك بالضرورة يحتاج الى ضابط يضبطهما. فبدون ذلك فان كلا من الدين والسياسة لم يستطيعا ان يتعايشا. بل ان كل منهما قد جنى على الاخر.
و لحسن الحظ فان هذا الضابط بسيط و معروف آلا هو العدل. فالعدل في هذه الحالة يجب ان يكون له اولوية على كل من الدين و السياسة. فالدين بدون عدل قد ينحرف و السياسة بدون عدل قد تنحرف. فقط يمكن ان ينضبطا اذا وجد العدل قبلهما و استمر مرجعية لكل منهما.
العدل يقوم على قبول انساني شامل. فما من انسان الا و هو يحب العدل و خصوصا اذا لم يكن طرفا في الموضوع. فمن من انسان الا يكره ان ير انسانا يقتل انسانا اخر بدون اي مبرر و يكره ان ير انسانا يسطو على مال انسان اخر من دون رضها و يكره ان يرى انسانا ينتقص من كرامة انسان اخر.
العدل هو الذي يضبط كلا من الدين و السياسة و العلاقة بينهما. فأي تحاور او تفاوض بين الناس يجب ان ينطلق من العدل و ان يكون العدل مرجعيته. فبدون ذلك فانه لا يمكن التوصل الى اتفاق عادل و قابل للاستمرار. فقد يستطيع القوي ان يفرض ما يريد على الضعيف لكن موازين القوة لا تبقى ثابتتا فإذا ما تغيرت فان الضعيف يصير قويا و بالتالي ظالما بعد ان كان مظلوما. يقول الله تعالى في سورة غافر وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33).
يقول مؤمن فرعون لقومه لا تغتروا بقدرتكم على الظلم و تحديد القواعد الظالمة التي تعتقدون انها في صالحكم. فعليكم ان تعتبروا من التاريخ. فموازين القوة قبلكم لم تكن ثابتة. فالقوي اليوم يكون ضعيفا في المستقبل و العكس بالعكس.
فالعدل هو الذي يبقى و هو الذي يحمي الضعيف و القوي و بالتالي فلا تكون القوة ضرورة كما تعتقدون. يا قومي انتم اليوم اقوى من بني اسرائيل و بالتالي فان قوتكم قد تمكنكم من فعل ما تشاءون. لكن سيأتي يوما تكونون فيها الطرف الاضعاف. فإذا ما حاولتم حينئذ التوقي بالعدل فلن يقبل منكم حد ذلك لأنكم انتم اول من تجاهل العدل.
العدل هو الذي يحمي جميع الاديان و العدل هو الذي يحمي جميع المواطنين و جميع الدول. و على هذا الاساس فانه يجب ان يكون هدفا للجميع و مرجعية للجميع. فمن يعتقد ان دينه افضل من العدل فهو واهم و من يعتقد ان قوته اقوى من العدل فهو كاذب.
صحيح ان العدل قد يتناقض مع بعض مسلمات بعض الاديان و بعض القوى السياسية لكن العدل لا يلغي كل الاديان و كل القوى السياسة. فقط في حال الاحتكام الى العدل تتعايش كل الاديان سواء كانت حقة او باطل و كل الثقافات سواء كانت مقبولة من الجميع ام لم تكن كذلك.
و من الغريب في الامر ان هناك من المسلمين من يعتبر ان قواعد العدل قد تتعارض مع الدين الاسلامي و لا سك ان ذلك رأي قاصر. فالله عدل و هو الذي وضع قواعد العدل في طبيعة الانسان. و من ثم فان ما استحسنه الله يستحسنه العقل البشري و العكس بالعكس. فلا يوجد في القران شيئ استحسنه الله او استقبحه و ذهب العقل البشري الى خلاف ذلك. لكن ذلك لا ينطبق على ما يطلق عليه الشريعة الاسلامية و التي هي في جوهرها اجتهادات من البشر قد تخطئ او تصيب.
يقول الله تعالى سورة النساء إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58). و في سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135). و في سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8). و في سورة الانعام وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152). و في سورة هود فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15). وفي سورة الحجرات وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى امر الله فان فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين. و في سورة ال عمران شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18). إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21). وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29).
لم يكتف القران بالحض على العدل و انما وضع له تعريفا وضاحا محددا. يقول الله تعالى في سورة الشورى وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42). وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43).
و قد كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ترجمة حرفية لذلك. فقد تعامل مع قومه بالعدل و تعامل مع اصحابه بالعدل و تعامل مع من خالفه بالعدل. فأول شيئ قام به رسول صلى الله عليه و سلم عندما قدم الى المدينة هو التفاوض مع كل الطوائف الموجودة فيها وفقا للأسس العدل لا الدين. و كانت اتفاقية المدينة عادلة للجميع و التزم بها رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى وفاته.
و عندما فتح الله له مكة تعامل مع اهلها وفقا للعدل. و عندما اختلف معهم احتكم الى العدل. و عندما تعامل مع القبائل في الجزيرة العربية تعامل معه بالعدل و عندما وجه رسائله الى الامم في وقته تعامل بالعدل.
لكن العرب و المسلمين اليوم يحاربون العدل بحجة ان ذلك يتناقض مع الدين الاسلامي. فهناك من يقتل الناس بدون حق و هناك من يقتل المسلمين بدون حق و هناك من يستبيح قتل الاسراء هناك من يشجع على ظلم من يخالفه وهناك من يختطف الابرياء و يحاول ان يحصل على فدية منه مستندا الى الاسلام و هناك من يمارس العلاقات الجنسية غير العادل تقربا الى الله. و هناك من يدعو الناس الى اطاعة ولي الامر باعتباره طاعة بغض النظر عن تطبيقه للعدل او خروجه عنه.
و من اجل ذلك يصر هؤلاء ان الدين هو السياسة و السياسة هو الدين كي يتمكنوا من ممارسة الظلم اما من خلال تفسيراتهم الباطلة للدين و اما ان يمارس ظلمهم استنادا الى قوتهم السياسية. ففي حقيقة امرهم فلم ليسوا متدين و ليسوا سياسيين. انهم فقط حيوانات على صورة بشر.
الدين دين و السياسة سياسة و الذي يفصل بينهم هو العدل. كما ان البشر بشر و الحيوانات حيوانات والذي يفصل بينهم هو العقل. فعلينا في العالم العربي ان نبحث على العقل و العدل قبل ان نبحث عن الدين و السياسة.
في الثلاثاء 08 أكتوبر-تشرين الأول 2013 02:15:24 ص