|
العالم المعاصر يعاني من أزمات حادة في كل مناحي الحياة الإنسانية، ولكننا إذا دققنا النظر وتفكرنا في هذه الأزمات وجدناها جميعا أزمات أخلاقية، سواء في التصورات غير الأخلاقية أو الممارسات غير الأخلاقية "ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" سورة الروم 41.
فمثلا: الأزمات السياسية كلها أزمات أخلاقية. سوريا مثال صارخ وفلسطين والعراق وبورما وبنغلاديش وما يحدث الآن في أفريقيا وفي الشرق والغرب، هذه كلها أزمات أخلاقية في التصور والممارسة.
وأعجب من أناس عندهم من الصلافة قدر يسمح بأن يقولوا إن إرهاب الدولة في سوريا مشروع أخلاقيا بناء على شرعية الدولة وقواعد (السيادة) والأمن القومي والقانون الدولي وهذا الكلام، وهذا ببساطة يعني أن هناك مشكلة عميقة ليس فقط في الممارسة بل في التعريف النظري والتصور الفلسفي لمفهوم السياسة أصلا.
وبعض الذين يمارسون السياسة باسم الإسلام (ولكن على الطريقة الميكافيلية) أيضا يحتاجون إلى مقاربة أخلاقية مقاصدية لتصحيح التصورات وتصحيح الممارسة السياسية، خاصة مع دعوى الإسلامية.
والأزمات الصحية في هذا العالم -كمثال ثان- مردها إلى تعريف غير أخلاقي للطب كسلعة يشتريها الغني ويحرم منها الفقير، بل يموت الفقير وبالملايين من أجل عدم توفر دواء بدولارين أو ثلاثة، ثم حدث ولا حرج عن شركات الأدوية العملاقة وممارساتها غير الأخلاقية واللعب بالبحث العلمي لإثبات أو عدم إثبات الآثار الضارة لأدويتهم وأمصالهم والطعام، بل أصبح التجميل الذي يغير خلق الله والفطرة البشرية دون حاجة نفسية وصحية؛ أصبح جزءا من الطب وصناعته للأسف.
والتعليم كذلك بدلا من أن يكون حقا صار سلعة هو كذلك، يشتريها من يقدر عليها ويحرم منها من لا يقدر، وأصبح استهداف المدارس مشروعا في كل الحروب!
والفجوة الرقمية أصبحت واسعة، وهي قضية أخلاقية وليست تقنية فنية فقط، ذلك لأنها تجعل من يُحرم من تقنيات التواصل في هذا العالم يزداد فقرا وجهلا ومرضا، وتزداد الشركات التي تحتكر "المعرفة" والمخترعات، التي غالبا ما ينتجها العباقرة في البلاد الفقيرة بأبخس الأثمان، هذه الشركات تزداد ملياراتها ونفوذها على مقدرات الناس.
والفن الحقيقي الصادق يغطي عليه الفن الذي يستهدف تفكيك الفضائل والذي تنشره صناعة الترفيه عن طريق ثقافة النجوم التي تسطح وتفسد شباب هذا العالم، ناهيك عن صناعة الألعاب الإلكترونية التي غالبا ما تُميت فيهم شيئا فشيئا الرحمة والرفق والتواصل الاجتماعي والإنساني. هذه أزمة أخلاقية أخرى كبيرة، وهذه أمثلة قليلة هي غيض من فيض.
أما في مجال الاقتصاد فحدث ولا حرج. فالأزمات الاقتصادية الكبرى التي قتلت من قتلت وشردت من شردت وأفقرت من أفقرت، هي أزمات أخلاقية باتفاق الجميع! ولكن الشركات الكبرى تحتكر الاقتصاد بل والسياسة في هذا العالم، وأغلب البشر فقراء تحت خط الفقر، وتعقد المنتديات الاقتصادية العالمية فلا تناقش الأخلاق رغم أن الأسئلة الاقتصادية الكبرى هي أسئلة أخلاقية أساسا. والربا والاحتكار والرشوة والفساد واستغلال الضعفاء والأطفال في عمالة رخيصة لا توفر أدنى احتياجات الإنسان؛ هي كلها أزمات أخلاقية.
ويلحق بالأزمات الاقتصادية وينتج عنها أزمات بيئية تسببها شركات البترول العملاقة والنفايات النووية لبعض الدول التي تحتكرها في البلاد الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، واستنزاف بعض الاقتصادات الكبرى للمصادر الطبيعية الإنسانية المشتركة من هواء وماء ومعادن، وعلى نفس المنوال تنعقد القممُ البيئية العالمية ولا تناقش الأخلاق ولا تذكر العدالة والإنصاف، ناهيك عن الشركات الكبرى وبعض الدول التي تتلاعب بالجو الطبيعي بل بمكونات التربة أحيانا.
ثم مع فساد مكونات التربة، تظهر التقنيات غير الأخلاقية التي تغير خلق الله وتلعب بالجينات الطبيعية المرتبة ليس في الإنسان فقط بل في الحيوان والنبات بغرض التكسب والتجارة، دون ضابط ودون رعاية لحقوق الكائنات الحية وفطرتها. وتُقتل الحيوانات بالملايين في كل بلد ليزداد الإنسان تخمة ويصل إليه من الحيوان المسكين كله قطعة لحم أو قطعتين. ثم يقابل التخمة والاستهلاك مجاعات وبشرا يموتون بالملايين كل عام لا يجدون شربة ماء أو قطعة خبز، وما نداء (خبز وماء) الذي سمعناه في الثورات العربية عنا ببعيد.
والمرأة -المسلمة وغير المسلمة- في وضع لا تحسد عليه في كل الثقافات والبلدان التي تدعي التقدم والتي لا تدعيه. ففي الشرق والغرب تُظهر الإحصائيات الفرق الكبير بين النساء والرجال في معدلات الأمية والمرض والفقر، والمرأة أصبحت في عالم اليوم سلعة وشيئا يباع ويشترى، لا تشتري قلما ولا سيارة ولا قطعة أثاث إلا وامرأة تظهر من محاسنها في الدعاية له. والعنف ضد المرأة وتهميشها في علوم الدين والسياسة والفكر والتجارة وغيرها كلها ظواهر عالمية تتخذ أشكالا مختلفة في الثقافات المختلفة.
وأخيرا وليس آخرا، فالأخلاق في الإعلام والصحافة موضوع طويل ذو شجون. ومع كل احترامي للإعلاميين الشرفاء أسأل الإعلاميين والصحفيين بشكل عام: أين الحقيقة؟ وأين الأخبار؟ الذي نراه في الإعلام الخيال فيه أكثر من الواقع، والذي يصل إلينا من الأخبار هو فقط أرقام القتلى في كل بلد في كل صباح نسمعها مع الأرقام الأخرى، أعني درجات الحرارة والبورصة! أين الأخبار عن الحضارة الإنسانية والإنجازات الإنسانية؟ أين قصص النجاح؟ وتحسّن الحال هنا أو هناك؟ أم أن العالم ليس فيه إلا القتل والانتخابات؟
مقاصد الشريعة نتبناها في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بمؤسسة قطر، منهجا لمواجهة الإشكالات والأسئلة الأخلاقية في كل المجالات التي ذكرتها، ولتحقيق تلك الثورة الأخلاقية في دنيا الناس.
ذلك لأن المقاصد هي الأخلاق الكريمة والمعاني السامية والغايات الرفيعة والأهداف الكبرى التي تتغياها شريعة الإسلام كما أنزلها الخالق سبحانه وتعالى. ورغم أن مقاصد الشريعة علم ولد من رحم الفقه وأصوله وما زال يترعرع في هذا المجال، إلا أنه الآن خرج بفضل الله تعالى من هذا الإطار إلى فضاء المجالات الإنسانية المعاصرة كالتي ذكرناها، ويمكنه أن يقدم حلولا لمواجهة تلك الأزمات الأخلاقية الكبيرة على خمس محاور، أوجزها إن شاء الله في ما يلي: التعريفات، والقيم، والأولويات، وآليات التكامل، والممارسات.
أما التعريفات، فالمقاصد هي الإجابة عن سؤال: لماذا؟، وعلماء الإسلام العظام قد أجابوا عن سؤال "لماذا" في الشريعة كلها بمقاصدها العامة المعروفة، من: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والنسل والمال، وأجابوا عن سؤال "لماذا" كذلك في كل باب من أبواب الفقه المختلفة عن طريق ما سموه (مقاصد الباب)، كمقاصد البيوع وهي: الوضوح ومنع الظلم ومنع الربا والرواج وغيرها، ومقاصد الزواج، ومقاصد الجهاد، ومقاصد العقوبات، ومقاصد القضاء، ومقاصد الولاية، إلى آخره. ولكن (الأبواب) تغيرت مع تغير العالم، ونحتاج اليوم إلى مقاصد لأبواب العلم والفكر الجديدة.
نحتاج إلى إجابات عن سؤال "لماذا" ليس في الشريعة فقط، بل كذلك في الطب والسياسة والاقتصاد والتربية والفن والإعلام وغير ذلك. فإذا سألنا لماذا الطب؟ لن نعرف الطب كسلعة كما هو في الواقع الآن بل بهذا نغير الواقع ونعرفه تعريفا أخلاقيا يستمد من مقاصد الشريعة العظيمة ويضع الممارسات الطبية والقضايا موضعها السليم. وإذا سألنا لماذا السياسة؟ ولماذا الدولة؟ ولماذا الفن؟ ولماذا الإعلام؟... أمكنا أن نراجع التعريفات المراجعة الأخلاقية المنشودة.
وأما على مستوى القيم، فمقاصد الشريعة هي منظومة القيم الإسلامية، وليست المصالح في المفهوم الإسلامي منفصلة عن قيم الخير والحق والجمال والأخلاق المعروفة، بل إن منظومة القيم الإسلامية التي تمثلها المقاصد هي أكثر تعقيدا وتركيبا مما سواها من منظومات القيم الفلسفية، وفيها ترتيب للأولويات بين الضروري والحاجي والتحسيني، والخاص والعام، والعاجل والآجل، بل في داخل كل قسم كالضروري مثلا هناك أولويات: فالنفس قبل العقل قبل العرض قبل المال.
والأولويات التي تمليها المقاصد ضرورية لوضع السياسات وسن التشريعات وضبط الممارسات بطريقة أخلاقية، فقضية الأولويات قضية أخلاقية بالأساس تسفر عن الأهم فالمهم عند متخذي القرار، فتقدم الأهم في الاهتمام والجهد والميزانيات وتؤخر الأقل أهمية، وهكذا تقدم القرارات المهمة على القرارات الأقل أهمية، والأهداف على الوسائل، والأصول على الفروع، والأركان على المتممات، والكليات على الجزئيات، والمعاني على الشكليات، والقيم على الاعتبارات الأنانية والشخصية.
والمقاصد كذلك تدفع البحث والنظر الأخلاقي حول تكامل المنهجية وتعدد أبعادها. لأنه ما من قضية طبية إلا لها بعد اقتصادي وسياسي وبيئي واجتماعي وتربوي، وما من قضية فنية إلا لها بعد اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي... وهكذا دواليك. والمقاصد معان مجردة تمتد وراء التخصصات الضيقة وتوسع نظرتها وتتكامل فيها المنهجيات بين ما تراه هذه التخصصات ومصلحة أو قيمة مطلوبة في واقع الناس.
والمقاصد أخيرا هي حجة الله البالغة على عباده والدليل على صدق رسالته ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى حكمة التشريع المنزل، وهي بالتالي تدفع الممارسة الأخلاقية وتحرض عليها، وتصل الوعي الإنساني والضمير الإنساني بالله تعالى، وفي هذا حل للمشكلات الأخلاقية كلها.
- نقلا عن الجزيرة نت:
في الإثنين 01 إبريل-نيسان 2013 04:19:52 م