|
أن تمر فاجعة، بحجم سقوط طائرة عسكرية في حي حيوي، آهل بالسكان، مخلفة مآسيٍ فادحة، دون أن تُمثّل، بالنسبة للأغلبية، أكثر من خبر يستغرق دورته الزمنية القصيرة، ويحظى بتعاطف واهتمام لحظي، ومضى إلى حين مستجد ربما لن يأتي، فتلك أزمة ضمير وإنسانية، وانعدام مسؤولية جمعية..
هي الآن مجرد ذكرى رغم أن الأشلاء لم تجمع ربما كلياً، والحرائق لم تنطفئ، ونار أخرى تلتهب في نفوس المفجوعين من الصعب ان تنسى وتذوب كالأخبار، ونتائج التحقيقات..
لا شيء تغير إذن.. تُؤخذ النوازل بخفّة، وقصر نظر، لتبقى الفاجعة خاصّة المعنيين بها أولاً وأخيراً، وتظل احتمالات وأسباب وقوعها قائمة بقوة، لتنال سكاناً آمنين، وتخلف ضحايا ومفجوعين آخرين، لا ذنب لهم سوى انهم كانوا متواجدين في مسرح النكبة، وربما لأن بعضهم، ممن يقدر على التأثير في قضايا كتلك، آثر خذلان الصمت، دون أن يعي أنه بذلك إنما يضع نفسه وغيره في قائمة الضحايا المحتملين مستقبلاً.
الأمر مرعب بحق، أناس، فيهم نساء وأطفال، في بيوتهم، وغيرهم عابرون في شارع حيوي مكتظ، لا احتمال فيه لحادث سير قاتل، بسيارة متهورة، آخر ما كانوا يتوقعونه نهاية خرافية كتلك، بطائرة عسكرية تهبط فوق رؤوسهم، عِوض مدرجات المطار، لتنقلهم إلى الآخرة دون سابق إنذار يسعفهم في استشعار المصير الطارئ الذي واجهوه، ولولا رحمة الله لكانت قائمة الضحايا عشرات أضعاف ما كانت عليه.
كل الأحياء كانت مرشحة لأن تكون مسرحاً للكارثة.. كل بيت كان هدفاً محتملاً ووارداً، وأسرنا جميعاً كانت مشاريع ضحايا، والبقية متقبلو عزاء ومواساة، ولا زلنا كذلك.. للأسف.. وأن يعود أحدنا، إلى بيته، ويرى أطفاله وأفراد أسرته، دون أن يشعر بفاجعة حلّت بمن عداه، ممن نكبوا بأسرهم، أو أقاربهم، أو أعزائهم، وكان لها آلاف الضحايا المحتملين، أنقذهم تغير مسار السقوط، فعليه أن يراجع إنسانيته.
فُجع مصطفى الشميري، بزوجته، وابنتيه.. هو الآن يعيش مأساته لوحده، وربما يشاطره بعض أفراد أسرته، وأصدقائه المقربين.. ولن يكون من السهل عليه، التعامل على منهج الإعلام والرأي العام، وحتى المعنيين في التحقيق، ولن تواسيه التعويضات مهما بلغ قدرها، وكما لن تبلسم جرحه الغائر.
تكمن العقدة، في أن مساحة التعاطف والتأثر وردة الفعل تكون أكبر لدينا، أغلبنا، كلما كان أكثر قرباً من الدائرة الضيقة للضحايا أو المعنيين بالكارثة.
سيكون الأمر مختلفاً تماماً في حالة واحدة، إذا كان الأمر متعلقاً بضحايا لهم وزنهم وثقلهم الرسمي أو السياسي أو الاجتماعي، أو كان للمكان دلالته.. ستحضر نظرية المؤامرة بقوة، ولن يكون من السهل إقناع المتشيعين لشخصية ما، بعفوية الحادث، حتى لو أكدت ذلك القرائن والأدلة القاطعة.. وهذا ما يحدث في حوادث سير، تعرضت فيه سيارة أحد الشخصيات "المهمة"، لحادث انقلاب، أو تصادم، أو تعرض لوفاة طبيعية، فكيف إذا كان القدر، قد وافاهم بطريقة كتلك، لا سمح الله..
بطبيعة الحال، "المواطن" المسؤول/السياسي يختلف عن المواطن المغمور موظفاً أو خياطاً أو سائقاً، او عاطلاً، حتى بالنسبة لكثير من أرباب العمل السياسي والحقوقي والاعلامي.. لن تحضر الكارثة بأكثر من ذكرى، وأمنيات بجبر الضرر.
قدر هذا البلد أن يظل منكوباً ، بانتهازية نخبه، وسلبية الرأي العام، وغياب مسؤولية لدى أصحاب القرار، ومن يملكون أدوات الضغط والتأثير..
استمرأ الجميع، نكبات الطائرات العسكرية، وسقطت خلال عقد من الزمان أكثر من 30 طائرة، والعشرات من الكوادر في سلاح الجو، وأخيراً المدنيون..
وفي تحول خطير، جاءت نكبة طائرة الحصبة وقتل عشرة من كوادر القوات الجوية، قبل أربعة اشهر، فاستبسل المعنيون بالثناء على مثابرة قائد الطائرة ومرافقيه، وتضحياتهم لتجنيب المدنيين أخطار الكارثة، دون أن تعني اكثر من خبر أيضاً، فكان ما تساهلنا في تقدير خطورته، في حادثة سوق الحصبة المهجور قسراً، حاصلاً في نكبة الطائرة الأخيرة..
لكأن هذا الأمر لا يعني النخب السياسية، ولا يهم الرأي العام، لكأن تلك الطائرات، ليست مالاً عاماً لكافة أبناء الشعب.. لكأن الضحايا هم سكان كوكب آخر، ولا تعنينا دماؤهم من قريب أو بعيد، عدا بعض أقاربهم في كوكب الأرض.
الحادثة لا بد لها من مسؤول، في هرم القيادة العسكرية، ومن حق الرأي العام وأسر الضحايا أن يدركوا سبب نكبتهم على الأقل، وعلى الإعلام وجماعات الضغط والرأي العام أن يقوم بدوره الفاعل في حماية المواطنين، ومعهم المال العام من الهدر بتلك الطريقة المنفلتة.
المعضلة الدائمة في هذه البلاد، أنه لا يوجد مسؤول، يحترم نفسه، يتجاسر على إعلان تحمل مسؤولية أي حادثة، او كارثة، تحل فيها، حتى وإن لم يكن متسبباً فيها بأي حال من الأحوال، لكن هناك مسؤولية سياسية واخلاقية لا بد من أن يتحملها مسؤولون بعينهم..
للأسف.. يتبارى المسؤولون المدنيون والعسكريون اليمنيون على تقاسم المغانم ورصيد الانجازات، ويتنصلون عن أي مسؤولية تجاه الاخفاقات والنوازل..
وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلينتون، أعلنت مسؤوليتها عن مقتل القنصل الامريكي في بنيغازي قبل أشهر.. أتراها كانت متورطة بأي شكل من الأشكال في مقتله.. قطعاً لا، لكنها مسؤولية سياسية وأخلاقية لا بد أن يتحملها مسؤول ما..
تلك هي أخلاقيات وقيم المسؤولية والدولة.. ومن مظاهر غياب الدولة، والمسؤولية، في هذا البلد، دون أن يتخذ مسؤول أول أو ثانٍ أو عاشر في هرم الجهة المعنية بالنكبة مباشرة، قراراً حاسماً بمسؤوليته عن الحادثة، فضلاً عن لجان التحقيق التي تشكل في مثل هكذا نكبات وحوادث، تنتهي بلا نتيجة، أو بنتائج حبيسة الأدراج، مستمرئة هشاشة الرأي العام، وحالة النسيان الجمعية السريعة التي تخذله عن حماية نفسه مستقبلاً..
وأن يعلن مسؤول ما مسؤوليته تجاه الحادثة، ويعلن استعداده تحمل تبعاتها، فذلك لا يعني بالضرورة محاكمة أو عقاباً ما لم يكن متسبباً مباشراً في وقوعها.. هو موقف أخلاقي، يتبعه في أكثر النوازل فاجعة، فإن إعلاناً كذلك، سيقتضي استقالة أو إقالة، وسيكون أثره بالغاً في مضمار حماية المال العام وأرواح الناس.
التسليم بسياسة استغفال الرأي العام، سواء في مثل هذه النكبات، أو غيرها، يعني أن طائرات أخرى ستسقط، وأسر ستنكب، واغتيالات وتفجيرات ستقع، ولن تكون أكثر من خبر ربما يأتي يوم نجد فيه أنفسنا غير قادرين حتى على إظهار مشاعر الحزن، فإما إنسان بلا إنسانية.. أو جثث متفحمة على أنقاض الطائرات، ورماد التفجيرات..
saminsw@gmail.com
في السبت 23 فبراير-شباط 2013 06:04:20 م