|
قـبل أن تعرف المؤتمرات العامة للأحزاب وقبل أن تتأسس الجمعيات العمومية للشركات والمؤسسات الأهلية وحتى قبل أن تعقد برلمانات الدول ومجالس شيوخها وشوراها وكذلك قبل أن تلتئم اجتماعات منظمات الاتحاد الأفريقي وأيضاً ملتقى دول «الآسيان» وبالطبع قبل مؤتمرات القمم العربية والاتحاد الأوروبي ومنظمة أمريكا اللاتينية .. وأخيراً حتى قبل بزوغ هيئة الأمم المتحدة .. وجميعها تعقد مؤتمراتها الدورية وجمعياتها العمومية من أجل التشاور والتنسيق في محاولة لخلق لغة مشتركة إزاء الراهن من التطورات والأحداث .. أقول - قبل كل ذلك - كان الحج إلى بيت الله الحرام الذي يأتي إليه الناس من كل فج عميق ، ليس كما يأتي أعضاء تلك المؤتمرات إلى اجتماعاتهم وملتقياتهم بربطات العنق وبأزيائهم التقليدية يتحدثون بلغة خطابية عن شؤون الدنيا ، يخفون وراء عباراتهم المعسولة رحيقاً من السم الزعاف ، بل إن أكثرهم يعلنون ما لا يبطنون .
- أما مؤتمر الحج إلى بيت الله الحرام فلا يقاس بمعايير اجتماعات وملتقيات البشر ، حيث يأتي الحجيج من كل أصقاع الأرض وعلى كلمة واحدة ، يوحدون الخالق ويعظمون شعائره في صورة تضامنية رائعة لا تتكرر إلاّ مرة واحدة في مكان واحد من كل عام .. يأتون وقد رموا خلف ظهورهم مشاغل الدنيا مجردين من كل زينة أو لباس إلاّ من قطعتي قماش تستر عوراتهم في دلالة لا تخطئها العين لحتمية الانتقال إلى دار أخرى يدخلها الإنسان بقطعة قماش كتلك التي يرتديها الحجيج .
- ببساطة .. إنه مؤتمر ليس ككل المؤتمرات ، فمن حيث الشكل يتعذر- بالمطلق -توافر قوام بهذا العدد لأية فعالية كانت على وجة البسيطة .. أما من حيث المضمون فإن السائد في الفعاليات والاجتماعات الدنيوية هو بروز الاختلافات والتباينات على عكس مؤتمر الحجيج ،حيث لا خلاف أو اختلاف في واحدية الهدف وسمو الرسالة ، إذ إن كل الملايين التي تحتشد في كل أرجاء الرقعة المكرمة وحول الكعبة المشرفة متفقون على كلمة سواء ويتبعون المسالك نفسها ويعظمون الشعائر عينها ويتقربون إلى المولى عز وجل بقلوب وجلة وأحاسيس مرهفة ومشاعر يغمرها الرجاء ودموع ممزوجة بالشوق والاستغفار .
- بينما يعود المؤتمرون من فعاليات مؤتمراتهم واجتماعاتهم الدنيوية بضمائر قلقة وخواطر مضطربة ، يجترون عمق اختلافاتهم واستفحال أزماتهم ما ينعكس - بالنتيجة - على أمن وسلامة واستقرار شعوبهم وبلدانهم ..أما الحجيج - وقد اتموا مناسكهم – فإنهم يأتون إلى مؤتمرهم الذي بمكة بقلوب راضية مطمئنة تظللها مشاعر الحب والسعادة على رجاء أن يرجعوا من هذه اللحظات العطرة بزاد يدخرونه لحيواتهم الأبدية .
- ولكم يتمنى المرء أن يكون الحج إلى البيت العتيق- في تجانس ووحدة الطائفين - درساً بليغاً لدعاة الفرقة والشتات وأنصار التجزئة والانفصال ، بل لكم يتمنى المرء كذلك أن يستلهم دعاة تمزيق الأوطان وإثارة النعرات والعصبيات المقيتة ودق نواقيس الكراهية والاقتتال أن يستفيدوا من موسم الحج ودلالاته المؤكدة على أهمية إرساء وترسيخ الأمن والسلام والاستقرار في كل شعوب المعمورة ، بل ولكم يتمنى المرء أيضاً أن تسود هذه المجتمعات قيم العدل والمساواة كما تنبض بها قلوب الحجيج وهم في مواكب متساوية متراصة وهم يرتدون ذات الملبس ، يلهجون بالتوحيد ، لا فرق - في ما بينهم – بين عربي وأعجمي ولابين أبيض أو أسود أو بين فقير وغني ، رجل و امرأة شباب أو شيوخ وفي دلالة عميقة تعكس حاجة النفس البشرية إلى التطهر من أدران الدنيا وتؤكد على واحدية المشاعر الإنسانية وسمو الروح المطلقة والالتقاء على حقيقة واحدة وفي أُلفة يتساوى الناس تحت ظلالها ، يلتقي فيها جموع الحجيج على أرضية المؤتمر الأكبر الذي ترتفع فيه هامات الحجيج وتحلق أفئدتهم بروحانية صافية في ملكوت هذا الخالق البديع الذي ليس كمثله شيء .. وهو المؤتمر الذي تعمه جموع الحجيج وبدون ربطات عنق إلاّ منِ روابط الإيمان والذي تتضاءل أمامه كل الفعاليات والمؤتمرات.
كل عام وقلوب القراء الأعزاء عامرة بالإيمان والتفاؤل والخير والمحبة .
في الأربعاء 24 أكتوبر-تشرين الأول 2012 06:47:49 م