|
(الداخلية:- تشدد إجراءاتها الاحترازية- توجه برفع اليقظة الأمنية- تحظر حمل السلاح- تتعقب إرهابيين ومخربين- ترصد سيارات مفخخة- تمنع بيع الطماش واطلاق الألعاب النارية- تدشن حملات تفتيش وملاحقة للمخالفين)..
تلك نماذج لإعلانات وزارة الداخلية، التي يجري تداولها محلياً وعربياً، دون أن يلمس لها أثراً في الغالب، وكمثال حديث فإن آخر إعلان دعائي -تزامناً مع إجازة العيد - كان عن حظر حمل السلاح والتجول به حتى على العسكريين والأمنيين عدا من هم في خدمة رسمية، لكن الواقع أن مئات المسلحين من مرافقي المشايخ وغيرهم يتجولون في شوارع وأحياء رئيسية بالعاصمة ومدن أخرى دون أدنى اعتبار لإعلانات الداخلية!.
لا تحتاج تعميمات الداخلية لأقسام الشرطة وإدارات الأمن -غالباً -للترويج عبر وسائل الإعلام، بقدر حاجتها لتنفيذ صارم وملتزم ونزيه من قبل الأدوات الأمنية المختلفة، ما يجعلها محل هيبة واحترام مفروض، كجزئية رئيسية وهامة في مهمة استعادة الدولة وفرض هيبتها على الجميع دون استثناء.
تلك الفوضى والإجراءات الدعائية، تضعف هيبة الداخلية وأجهزتها الأمنية(الدولة)، لتجد نفسها، في موطن يستحق التصريح والإعلان أو التحذير، قد انزلقت في أتون الارتجالية التي تهز هيبتها ومصداقيتها.. وذلك ما حصل عندما تم التصريح بأسماء منفذي جرائم السبعين وكلية الشرطة بإعلان أو تسريب أسماء لا علاقة لها بالهجمات، ما سوق الداخلية وأجهزتها بأنها خارج دائرة المسؤولية والمصداقية، وكلفها اعتذاراً باهظاً معنوياً للمتهمين خطأ..
يستحضر الجميع قرار منع عاكس «فريمات» السيارات، إبان وزارة الدكتور رشاد العليمي، بحجة تسهيل عمليات التفتيش، ودواع أخرى في نفس العليمي وجماعته، ليتحول الأمر إلى أولوية أمنية مقدسة، أنيطت بكل التشكيلات الأمنية (المرور، الأمن المركزي، الأمن العام، النجدة) ليتعداه إلى الشرطة العسكرية ونقاط الجيش..
بل وصل الاستبسال والتعنت في تطبيق القرار، حد عدم السماح للسيارات بالترقيم أو تجديد الوثائق إلا بعد استبدال الزجاج «المعكس من المصنع» بآخر شفاف، فيما حظر على المغتربين الكادحين في دول الخليج الدخول بسيارات «معكسة» إلا بعد استبدال الزجاج!.
قبل أسابيع كان أفراد النجدة يستوقفون صديقاً بسيارة معكسة في نقطة تفتيش، وإلى جواره مرت عدد من السيارات المكتظة بمرافقين يستعرضون أسلحتهم من الأبواب الجانبية والخلفية.. مروا دون توقف، مشفوعين بتحية الجنود «الغلابى»، دون أن يدركوا حتى من يتبع هذا الموكب المتخم بالأسلحة والمرافقين، فيما ظل «صديقنا» عالقاً بجنحة «العاكس»، ليخاطب الجنود «أمانة عليكم ما الأخطر على أمن البلاد، عاكس سيارتي أم كومة الأسلحة التي مرت دون حاجة حتى لإذن بالمرور»!
والمحصلة أن إجراء شكلياً كهذا، لم يخل من الانتقائية والابتزاز، إذ أصبح مصدر استرزاق ثري لبعض المعنيين، ولم يحل دون استمرار تجول النافذين رفقة مسلحين مدججين بالأسلحة وبسيارات «معكسة» أو شفافة.. لا فرق!!
كوزارة حيوية، تمثل جوهر الدولة، وأداة اتصالها المباشر والدائم بالمواطنين، وفي ظل المتغيرات الأخيرة، فإن الداخلية معنية بتجاوز إرثها السلبي المثقل بالفساد والتسيب والمحسوبية، وتغيير صورتها المشوهة-أو المدمرة- في علاقتها مع الناس، والإرتقاء بخدماتها وتحديث أجهزتها بما يعزز الأمن واقعاً في حياة الناس لا استهلاكاً دعائياً في وسائل الإعلام، بإجراءات لا تتجاوز منشورات الإعلان عنها.
يعاني المواطنون من الابتزاز والامتهان وسوء المعاملة في أقسام الشرطة، وإدارات أمن المديريات، وأصبح من الحماقة اللجوء إليها أو أدواتها الفرعية كالبحث الجنائي لمتابعة قضية ما، إذ يجد المواطن نفسه أحياناً أمام شبكات سمسرة ومقاولين، باسم الدولة، ينهبون ما تبقى لديه من مدخرات، وحتى كرامة، في وقت كان يؤمل أن يسترد -عبرهم- حقاً مسلوباً أو يجد إنصافاً أو ضبطاً، دون مراعاة أو اعتبار لمسؤولياتهم في حماية حقوق ومصالح الناس، وحفظ كرامتهم وتحقيق أمنهم..
وإلى جانب ذلك، فإن كثيراً من إدارات الأمن تنتهك صلاحيات النيابة والقضاء والسلطات المحلية، وتتداخل -أو تتدخل- في مهامها، ولا تلتزم بتوجيهاتها في كثير من القضايا، في ظل غياب شبه تام للانسجام وآليات تنظيم العمل بين السلطات المختلفة..
ويستمر القصور الأمني حاضراً كعنوان رئيسي لأداء كثير من الأجهزة على مختلف مستويات الهرم الأمني، ويغلب على ما ينفذ من إجراءات طابع العشوائية والبعد عن المهنية والمسؤولية، لقصور أو هزالة أداء أو لامبالاة، فيما تظل الفوضى الأمنية مشتركاً أبرز لكثير من المهام الأمنية ابتداء بالمرور، وحتى فرق مكافحة الإرهاب والمخدرات، مع ما يرافق تلك الفوضى من ضحايا بالعشرات من الأبرياء جراء العمليات الارهابية نزولاً إلى حوادث السير.
تلك بعض الاختلالات إلى جانب أخرى كثيرة هي أولى بالدراسة والمعالجة بصمت دون ضجيج، إلا رجع صدى من قبل المواطنين انفسهم بعد أن يلمسوا تغيراً إيجابياً في أداء أجهزة الأمن.
في أحد خطاباته الهامة، أكد الرئيس عبد ربه منصور هادي رؤيته المتقدمة لدور الأمن والجيش، خلافاً للنظرة التقليدية السائدة، مشيراً إلى أن حماية السلطة هي مسؤولية أجهزة الأمن، فيما مسؤولية الجيش هي حماية السيادة.. لكن، وحتى الآن، لم تقم تلك الأجهزة بدورها التقليدي في حفظ أمن واستقرار المواطنين، فكيف ستتحمل مسؤوليتها العميقة في حماية السلطة، وهي تتبنى سياسة دعائية وإجراءات شكلية فارغة وتصريحات غير دقيقة، لم تفلح في حماية مقر الوزارة من الاقتحام والنهب..
وبالتالي فإن أكثر ما تحتاجه وزارة الداخلية في المرحلة الراهنة قليل من الدعاية، وكثير من تنفيذ الإجراءات والخطط الأمنية التي تتبناها، وتحديث وترشيد أجهزتها الأمنية، وحصر أخبار الإعلانات الدعائية في أضيق الحدود الضرورية، كالتحذيرات -في مواطن معينة- يكون من المصلحة نشرها تجنباً لخطر وشيك، أو تعميم أسماء وجهات مطلوبة على ذمة جرائم، بات معلوم مرتكبوها بشكل قطعي..
أما إذا ما استمرت الداخلية في تغليب الطابع الدعائي والإجراءات الشكلية المرتجلة على مهامها، فلن تجني أكثر من الفشل ومزيد من الإنفلات الأمني، وستعمق الهوة المتسعة لحالة الثقة بين المواطن وأجهزة الأمن، ضداً على العلاقة الطبيعية المفترضة..
أكثر من ذلك؛ ستكرس مزيداً من الثقافة النقيضة لمفهوم وثقافة الدولة لدى أجهزتها الأمنية ولدى المواطنين على السواء، ما يضع الدولة ومصالح المواطنين رهن المزاج الأمني الطارئ، والإجراءات الشكلية التي لن تكون الداخلية ذاتها بمنأى عن آثار رخوة أجهزتها وقصور أدائها..
وبذلك لا تكون وزارة الداخلية واجهزتها أهلاً لأن تحقق أمناً، أو تفرض شيئاً محرزاً هو صلب مهمتها الرئيسية، يعرف بهيبة الدولة وسلطة القانون ..
saminsw@gmail.com
في السبت 25 أغسطس-آب 2012 05:23:03 م