فارس الأحصنة المتوحشة ..قال شبه الظل للظل: أراك في لحظة متحركاً وفي لحظة أخرى ثابتاً. وآناً جالساً وأخرى واقفاً. فلم هذا التنقل في أحوالك؟ قال الظل: آلا تراني معتمداً على غيري فيما أفعل؟ وألا ترى أن من أعتمد عليه يعتمد على شيء آخر في كل ما يفعل؟ أنى لي أن أفسر ما أفعل وما لا أفعل؟
المقدمة:
"نصوص من حكمة الشرق" هو الاسم الذي اخترته لهذا المقتطف، الذي تنشره الجمهورية الغراء في ملحقها ( كتاب في الجمهورية) من سفر اكبر ألفته باسم الميثيولوجيا الشرقية، وحالت الظروف المادية دون ظهوره.
كانت رحلتي في تأليف الكتاب وجمع مادته رحلة مثيرة ممتعة غاية الإمتاع، وهو ما أعد به القارئ الكريم أو قل ما أرجوه له.
والرحلة مع العقائد والفلسفات رحلة تتيح للإنسان فهم المجتمعات الإنسانية بثقافاتها المتعددة وهي تؤدي قطعاً إلى التفهم والتسامح الذي يغيب نتيجة للجهل وعدم المعرفة. فالإنسان كما يقول المثل الشعبي: عدو ما يجهل. ولعل أكثر ما أثار استغرابي في هذه الرحلة هو وضع طبقة المنبوذين في الهند الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان. وقد تحولت الدهشة إلى أسئلة غاية في الأهمية كانت الرحلة تقدم الإجابة عليها كلما أوغلت فيها.
لقد انقسمت الفلسفة إلى طريقين رئيسيين أحدهما يقول :بأن الفكر انعكاس لحركة المادة على الدماغ المفكر، وبعبارة أخرى أن التاريخ يصنع الوعي، والاتجاه الثاني يقول بالعكس أي أن الفكر هو ما يصنع التاريخ. ولكن هذا الرضوخ الغريب من ملايين المنبوذين الهندوس لوضعهم المزري المؤيد بعقيدة دينية يخلصون لها أشد الإخلاص ويؤمنون بها إيماناً أعمى يظهر على الأقل أن الوعي الموروث بما يشكله من وجود ماثل وحاضر في الذهن الإنساني أكثر قوة وتأثيراً من حركة الحياة خارج الوعي، أو فلنقل من حركة المادة خارجه. وهي حركة يتمثلها الوعي على صورة نتف متفرقة يحتاج تجميعها وصياغة فكر منها فترة زمنية طويلة، وعناية ورغبة حقيقيتين من قبل الإنسان لتجميع تلك المعطيات المتفرقة وتنسيقها واستخلاص النتائج منها. وهو أمر لا أظنه متيسراً للملايين من البشر الفقراء المقهورين. فلا غرو إذاً أن يكون المصلحون الثائرون قلة قليلة جداً من بين البشر حتى أنه يمكن عدهم وترديد أسمائهم واحداً واحداً في زمن وجيز.
ويتفرع مما تقدم أن قوة الدين حتى ولو كان هذا الدين يشكل مؤامرة صاغها البشر على صورة لعنة على المستوى الحياتي وقوة قاهرة ذات قدرة وتأثير جبارين على حياة البشر وتصرفاتهم. وصياغة البشر للأديان ليست بالأمر الجديد. وتظهر لنا الحصيلة التاريخية أن الإنسان أبدى نزوعاً وميلاً منذ وقت مبكر إلى بناء عالم فكري خاص به مفارق لواقع عالمه المادي ومواز له. وتلك حيلة قديمة لجأ إليها للتغلب على شعوره بالعجز على المستويين المعرفي (الابستمولوجي) العجز عن الفهم، والوجودي (الانطولوجي) العجز عن الامتلاك، وذلك عن طريق إعادة تعريف وتسمية مكونات عالمه، كلياً أو جزئياً، بما يتناسب مع رغباته وأمانيه.
البناء الخيالي الناتج عن هذا النزوع والميل، هو ما أصطلح الناس على تسميته أدباً وفناً لغوياً إذا كان جزئياً، وهو أيضا ما اصطلحوا على تسميته بالأيديولوجيا إذا كان ذا بنية شاملة.
الفكر والأيديولوجيا:
يقوم الفكر على أساس من اللغة، القائمة بدورها على تسمية الأشياء المتنوعة والكثيرة في العالم المادي، في بناء منطقي يعكس العلاقات بين الأشياء ضمن بنيتي الزمان والمكان. ويهدف هذا البناء المنطقي للغة، إلى لم شتات العالم في مكوناته الكثيرة المتعددة، وذلك في مسعى ابستمولوجي لفهم العالم واستخراج المعنى منه عبر الفكر. ومسعى انطولوجي للسيطرة على هذا العالم وامتلاكه، ومن ثم التخلص من الاغتراب المضني الذي يعانيه الإنسان فيه، وهو الاغتراب الناتج عن الكثرة الظاهرية لمكونات العالم، التي تتحدى الإنسان وتقابل هويته بهويتها الخاصة، وتقاوم رغباته واحتياجه إلى استئناسها وامتلاكها واستهلاكها، احتياجاً اضطرارياً لأسباب محض وجودية.
ولما كانت طبيعية البناء المنطقي للغة وبالتالي للفكر، في شقيها التحليلي والتركيبي، قائمة في الأساس على قضايا منطقية ذات مقدمات، ثم نتائج مستخلصة من تلك المقدمات، فإنها تقبل مقدمات خيالية مصطنعة لا تستند إلى وقائع مادية، فتؤدي إلى نتائج مصطنعة بدورها. وهذه النتائج المصطنعة هي أحجار البناء التي تستمد منها الأيديولوجيا بنيتها.
لقد أتيحت للمنبوذين فرص متعددة عبر التاريخ لخلع ربقة هذا الدين الذي يربطهم إلى وضعهم المزري بخيوط غير مرئية ولكنها شديدة الوثاق، وجاءت الفرصة الأولى مع البوذية، وتلتها الفرصة الأخرى مع الإسلام، ولكن يبدو أن الحكام المسلمين في الهند شكلوا طبقة حاكمة حبذت بقاء معظم الهندوس على ديانتهم على غرار بعض الخلفاء المسلمين الظلمة الذين لم يشجعوا الفلاحين في البلاد المفتوحة على الإسلام خشية فقد موارد الجزية المالية الهامة بالنسبة للحاكمين، وهو ما استنكره الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز يوم قال: «إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً».
أياً يكن الأمر، فالكائن البشري كما يقول المؤرخ آرنولد توينبي: "يتحتم عليه أن يعيش ويعمل خلال حياته المضطربة جسداً وعقلاً في المحيط الحيوي. ومتطلبات العيش والعمل تفرضه عليه أن يزود نفسه بأجوبة مؤقتة للألغاز التي تضعها الظواهر الطبيعية أمامه، وهذا مفروض عليه حتى ولو عجز عن الحصول على هذه الأجوبة من العلم، حتى ولو كان يعتقد بأن المعرفة العلمية هي المعرفة الوحيدة الحقة. ذلك أن هذا الاعتقاد ليس في حرز من التشكيك فيه ومع ذلك فإنه من الصحيح القول أن الأجوبة التي نعثر عليها خارج حدود العلم هي أفعال إيمان لا يمكن التثبت منها. فهي ليست شرحاً عقلياً وإنما هي حدس ديني ولكن الجوهري الذي هو ركيزة الدين هو، ولا ريب، ثابت ثبات جوهر الطبيعة البشرية ذاتها. فالدين، في الحقيقة هو صفة ذاتية ومميزة للطبيعة البشرية وهو الاستجابة الحتمية لتحدي غموض الظواهر الطبيعية وهذا التحدي يواجه الكائن البشري لأنه يملك هذه القدرة البشرية الفريدة - قدرة الوعي."
ولكني مع اتفاقي مع ما قاله المؤرخ الكبير فيما يخص كثيراً من الأديان إلا أنني أؤمن إيماناً عميقاً يؤيده العلم الذي أكد اليوم أن للكون بداية ونهاية، بأن الخالق العظيم أرسل أنبياءه لهداية البشر ولكن البشر قاموا بتحويل الدين السماوي إلى أيديولوجيا بالحذف والإضافة أو بالابتسار والاجتزاء، أو بالتفسير المغلوط، وقد قلنا : أن الأيديولوجيا عمل غائي يهدف إلى التغلب على عجز الإنسان على المستويين المعرفي والوجودي المتمثلين بالعجز عن الفهم والعجز عن الامتلاك.
وعند تحليل هذين المظهرين من مظاهر العجز الإنساني نجد أن عجز الإنسان عن الفهم راجع إلى الهوى ثم إلى التخلف العلمي والتقني وقصور مناهج البحث. أما العجز عن الامتلاك فهو شعور ناتج عن الطمع والجشع أولاً، ثم عن ندرة الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان لإشباع حاجاته. ولهذا يرى الإنسان في الآخر - فرداً أو مجتمعاً -منافساً خطيراً على الموارد النادرة يجب إقصاؤه ولو بإلغائه. ولذلك فإن الأيديولوجيا البشرية تتسم بسمتين رئيسيتين على وجه الحصر:
• تقدم في المجال المعرفي إجابات جاهزة، وهذه الإجابات عندما تتعلق بأمور علمية تؤدي إلى ظهور تهافت الأيديولوجيا وكذبها.
• وفي المجال الوجودي تنزع إلى الرفع من شأن الذات مقابل وصم الآخر وتحقيره والتقليل من شأنه تمهيداً لإلغائه.
ولكن مكمن الخطورة في الأمر هو في تدثر الأيديولوجيا بدثار الدين. فهاهم البشر في هذا العالم من أقصاه إلى أقصاه يخلعون نير الظلم والتمييز عن أعناقهم بينما يستكين له المنبوذون الهنود استكانة عجيبة، كل ذلك لأن الغزاة الآريين جعلوه ديانة اعتنقها أولئك المساكين.
آمل أن ينال هذا الكتاب رضى القارئ الكريم ، فهو ثمرة قراءات واسعة لعشرات المصادر الاجنبية وتجميع للمعلومات وتدوين للملاحظات وترجمة للنصوص التاريخية.
أحمد صالح غالب الفقيه
صنعاء في شتاء 2002
الهندوسية
الفيدا كلمة سنسكريتية تعني المعرفة.. وهي تطلق على أكثر النصوص قداسة وقدماً في الهندوسية وترجع نصوصها الأولى إلى الآريين الغزاة الذين احتلوا الهند قادمين من الشمال منذ حوالي عام ألف وخمسمائة قبل الميلاد. وقد تراكمت نصوص ضمت إلى الفيدا الأصلية عبر الزمن. وتحتوي النصوص الفيدية على أربع مجموعات من الأناشيد وأقسام شعرية وتعاليم تخص الطقوس والاحتفالات. وهذه المجموعات الأربع تدعى الريج فيدا، والساما فيدا، والياجور فيدا، ثم الأثارفا فيدا، وتعرف كل منها أيضا بلفظة (ساماهيتا) التي تعني المجموعة.
الأصول الأولى للفيدا:
كانت الأصول الأولى للفيدا مؤلفة بالفيدية وهي شكل من أشكال اللغة السنسكريتية، ورغم الأصل القديم لنواة الفيدا التي جاءت مع الغزاة الآريين فإنه من المعتقد أن كتب الفيدا لم تأخذ شكلها الحالي إلا في فترة تقارب القرن الثالث قبل الميلاد. وقد كانت الفيدا أدباً شفوياً، يحفظه عن ظهر قلب كهنة يسمى الواحد منهم (ريشي)، وينقلون ما حفظوه من جيل إلى جيل. وهي عملية يعترف علماء الهندوسية بأنها كانت تؤدي إلى إضافات وتغييرات في الأصل الآري. ومن المعترف به الآن لدى دارسي الهندوسية، أن كتلة كبيرة من نصوص الفيدا مأخوذة من الثقافة الدرافيدية الهندية السابقة على الغزو الآري، وهي أجزاء يمكن للدارسين تمييزها.
المحتويات والاستعمالات:
الساماهيتا الثلاثة الأول هي عبارة عن كتب للطقوس التي يتم إجراؤها من قبل ثلاث طبقات من الكهنة الذين يشرفون على الاحتفالات الطقوسية الخاصة بتقديم القرابين إلى الآلهة. وتحتوي الريج فيدا على حوالي ثلاثة آلاف أنشودة، فكلمة ريج تعني بالسنسكريتية الأنشودة. وهذه الأناشيد مكتوبة في أشكال شعرية متنوعة ومرتبة في عشرة كتب، يستعملها كهنة الهوتري أو القراء الذين - كما يعتقد - يستثيرون القوى الإلهية عن طريق الترتيل الجهري للأناشيد. أما الساما فيدا المحتوية على مقاطع (جمل) مأخوذة من الريج فيدا، فيستخدمها كهنة الـ(أود جاتري) أي المنشدون الذين يقومون بغناء تلك الأناشيد، وكلمة ساما السنسكريتية تعني الألحان. أما فيما يتعلق بالياجور فيدا فإنها تتكون الآن من قسمين منقحين يحتويان على نفس المواد تقريباً، ولا يختلفان إلا في الترتيب ويخص الكتاب التعاليم الطقوسية الخاصة بالقرابين، ويستعملها الكهنة الـ(أدفاريو) الذين يقرأون مقاطع مناسبة من الياجور فيدا أثناء قيامهم بأداء الطقوس. وكلمة ياجا السنسكريتية التي اشتقت منها كلمة ياجور تعني القرابين.
الجزء الرابع من الفيدا، وهو الـ(أثارفا فيدا)، ويعزى إلى كاهن - ريشي- اسمه آثرافان، ويحتوي على مجموعة واسعة من الأناشيد المتنوعة، والنصوص والتعاويذ السحرية المخصصة للاستعمال الشخصي والمحلي. ولم يكن هذا الجزء معترفاً به كجزء من الفيدا بسبب الطبيعة الانحرافية لمحتوياته عن النصوص الفيدية الأخرى الأقدم عهدا. ولكنه أصبح الآن مقبولاً كجزء من الفيدا، وهو يُستعمل كدليل طقوسي من قبل الكهنة البرهميين، وهم الطبقة الرابعة الأعلى التي تشرف على طقوس القرابين. ويعتقد الدارسون أن هذا النص يرجع في معظمه إلى الثقافة ما قبل الآرية.
مكونات نصوص الفيدا:
تتكون كتب الفيدا من حيث طبيعتها من نوعين من النصوص هما الـ(براهمانا) والـ(مانترا). والنوع الأول عبارة عن تعليقات وهوامش على كتب الفيدا الأصلية وهي تتناول التفاصيل والتفسير للنصوص الأصلية. أما النوع الثاني وهو المانترا فهو عبارة عن نصوص الفيدا الأصلية أو المتون.
وهناك كتابات مضافة ألحقت بالبراهمانا أي بالتعليقات والشروح وتسمى (أرانياكا) أو نصوص الغابات، واسمها مشتق من الكلمة السنسكريتية أرانيا ومعناها غابة. وهذه الكتابات الصوفية الطابع والغنية والغامضة في محتواها، كتبها الحكماء الزهاد من براهمة الغابات. ويعتقد الهندوس بقدسية كل الشروحات في البراهمانا على اعتبار أن مصدرها وحي إلهي يتلقاه واضعوها من الكهنة والحكماء الزهاد وهم في حالات الاتصال الروحي (سامدهي). كما يعتقدون أن فهم هذه النصوص فهما صحيحا لا يتيسر إلا للزاهدين المنقطعين للتأمل والعبادة.
ويشكل مجموع نصوص الأرانياكا - في شكلها النهائي - ما يعرف بال(أوبانيشاد) وهي ترجع إلى مابين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد. وتعتبر الأوبانيشاد والكتابات الفلسفية والحكمية التجديدية، التي نشأت على أساسها، فكرا بل وديانة توحيدية ذات شقين ، الأولى حلولية تقول بأن الأشياء المتعددة ليست إلا قناعا وخيالا ووهما لا حقيقة له يخفي وراءه حقيقة الإله الواحد الخالق، وتسمى النصوص التي تحمل هذا الفكر الحلولي بالـ (أدفايتا فيدانتا). والثانية توحيدية تقول : أن هناك إلها واحدا خالقا يتحكم في الكون، وأنه والكون كيانان منفصلان. وعقيدة الـ(فيدانتا) بشقيها تخالف العقيدة الأصلية للفيدا الشائعة في الهند، التي تقول بتعدد الآلهة ومع ذلك فنصوصها جزء من المجموعة الرباعية المقدسة للفيدا.
وعلى العكس من كتب الفيدا التي لا يجوز مناقشة محتوياتها أو معارضتها توجد الملاحم الشعرية غير المقدسة وهي قابلة للتحوير والتعديل والمناقشة وتسمى هذه النصوص غير المقدسة باسم (سمريتي) أو ما يتم تذكره.
وتتكون السمريتي من ملحمتي الرامايانا والمهاباهاراتا إضافة إلى ثمانية عشرة من (البورانا) الكبرى وهي نصوص سنسكريتية، إضافة إلى عديد من البورانا الثانوية.
وإلى جانب الملاحم هناك نصوص الدارماشاترا والدارماسوترا، التي ينتمي إليها النص المنسوب إلى الحكيم مانو الذي يردده الناس كثيراً.
والرامايانا والمهاباهاراتا ملاحم قصصية شعرية، تحكي مغامرات وبطولات تجسيد الإله فيشنو؛ (كريشنا وراما). وتتطرقان من خلال القصص إلى طائفة واسعة من الموضوعات الفلسفية والطبية والسياسية والفلكية. ويرجع تاريخها إلى مابين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي.
أما البورانا فتأتي بعد الملاحم في ترتيبها الزمني ، أي إلى ما بعد 400 بعد الميلاد بكثير. وهي نصوص قصصية أيضاً مكملة للملحمتين الكبريين. فالبهاجافاتا بورانا على سبيل المثال؛ تتناول طفولة كريشنا التي لم ترد في الملحمة الأصلية. وتحتوي البورانا أيضاً على أساطير ثانوية وأناشيد تمجيدية وفلسفات وصوراً وطقوساً.
ومعظم كتب اليورانا ذات طبيعة طائفية. فالبورانات الكبرى، وبعض الصغرى مكرسة لعبادة الإلهين شيفا وفيشنو والآلهات المرتبطة بهما. وإضافة إلى ذلك، تحتوي البورانا على موضوعات عامة غير طائفية؛ مثل خلق الكون، والتدمير وإعادة الخلق، وأصول الآلهة والحكماء المقدسين، والحكماء الآباء للجنس البشري (المانوات) جمع مانو.
الفـيـدانـتـا:
تمثل نصوص الفيدانتا الجانب الروحي المشرق في الهندوسية مقابل الروح الظلامية الكهنوتية للفيدا الأصلية التي يبرز بوضوح فيها أنها وضعت لتدعيم سلطة الكهنوت البرهمي الهندي لطبقة البرهميين الآريين المستغلة التي وفدت على الهند من الشمال واستعمرتها واستغلت أهلها وأوجدت لها خطاباً دينيا كهنوتياً عبوديا لا مثيل لعنصريته في التاريخ الإنساني لتدثره بدثار من التدين والطقوس التي قيدت مئات الملايين من الهنود في ربقتها ولا يزالون يعانون منها إلى اليوم.
أما الفيدانتا فهي نصوص تعبر عن حركات تجديدية تبدو كما لو كانت استجابة للتحدي البوذي الأكثر إنسانية، والذي استقطب كثيراً من سكان الهند.
وتتكون عبارة الفيدانتا من كلمتين سنسكريتيتين، هما: (فيدا)، وتعني المعرفة، و(آنتا)، وتعني النهاية، أي أن معنى الفيدانتا هو نهاية المعرفة.
والفيدانتا هي إحدى الفلسفات الهندوسية التقليدية الست، وهي تعنى بمعرفة البراهمان الكائن الكوني الأعلى النقي. وترتكز الفيدانتا على القسم المتأخر من الكتابات الفيدية نسبة إلى الفيدا، وبخاصة على الكتابات الغنية في نصوص الآراناياكا أوالأوبانيشادا.
وخلافاً للنصوص الفيدية التقليدية الأصلية فإن مختصرات الفيدانتا (فيدانتا سوترا)، وتدعى أيضاً براهما سوترا، تعزى إلى شخصيتين شبه اسطوريتين هما الفيلسوف بادارايانا من القرن الرابع قبل الميلاد، والحكيم فياسا. وتنسب إلى الحكيم فياسا أيضاً أجزاء متأخرة زمنياً عن سابقاتها من ملحمة المهاباهاراتا.
وأياً تكن شخصية واضع الفيدانتا الأول فإن من الجلي أن نصوصها كانت مكتوبة بأسلوب غامض، غير مؤيد بشروح توضح النص الأصلي. ولذلك فقد ظهرت لها لاحقاً، تفسيرات عديدة نشأت على أساسها مدارس فلسفية هندوسية متعددة. ولكن أشهر مدارس التفاسير وأكثرها أهمية هي (الأدفايتا) أو اللاثنائية التي أسسها الفيلسوف واللاهوتي الهندي شانكارا.
شانكارا:
القضية المركزية في فكر شانكارا هي العلاقة بين (براهمان) الإله و(آتمان) النفس أو الروح البشرية. وطبقاً لشاناكارا فإن الإثنين ليسا إلا الشيء ذاته، ولا يمنع الإنسان من إدراك الطبيعة اللاثنائية للكائن النقي الأعلى براهمان إلا (الأفيديا) أي الجهل. الذي يجعلها لا ترى ولاتدرك إلا الذوات المنفصلة والمتعددة والأشياء التي هي مجموع العالم المادي ذي الوجود المؤقت. وهي لا تدرك أن هذه الكيانات الوجودية المتعددة المنفصلة غير حقيقية في أساسها، وأنها ظواهر تنتجها (المايا) أي قوة الخيال الموروثة بصورة غامضة، والمنعكسة من (براهمان) الإله.
وما دامت الذات الفردية مفتقرة إلى المعرفة الحقيقية، فإنها ستظل تبحث عن ذاتها الحقيقية في عالم الظواهر. وستبقى واقعة في مصيدته باستمرار من خلال (سامسارا) أي سلسلة الوجود المتكرر المتضمن للموت وإعادة الولادة من جديد، والذي تعانيه كل نفس غير متنورة كنتيجة للـ(الكارما) أي أفعالها الشريرة والخيرة خلال وجودها السابق الذي يحدد شكل وجودها اللاحق. ولكن ومن خلال المعرفة الحقة بالفيدانتا تتمكن روح الإنسان، طبقاً لشانكارا، من إدراك الحقيقة اللانهائية للوجود الأزلي الكامن خلف القناع الكوني للمايا. وعندئذٍ تدرك روح الإنسان أن طبيعتها الحقيقة تنطبق على حقيقة البراهمان. وبهذه المعرفة الحقيقية للذات تصل الروح إلى (الموكشا) وهو الخلاص من السامسارا والكارما وبالتالي تحقق الوصول إلى (النيرفانا) أي الوعي الفائق والتنور التام. ومن الواضح من هذا الشرح لفكر شانكارا مدى صلته بالأفكار الواردة في نص الأوبانيشاد الذي نعرض ترجمة له في هذه المقالة.
الأوبانيشاد:
الأوبانيشاد، نصوص هندوسية مقدسة لدى الهندوس، وسرية بمعنى أنها كانت نصوصاً مضنوناً بها على غير الخاصة من رجال الدين الهندوس شأنها شأن كتب الفيدا الأربعة. وقد جمعت نصوص الأوبانيشاد في فصول من كتاب الفيدا الهندوسي الديني سميت «آرانياكا». والمقولات الفلسفية التي تحتويها الأوبانيشاد كانت أساساً لأحد الأنظمة الأهم للفلسفة أو الديانة الهندوسية وهي المسماة بـ«الفيدانتا». وهناك حوالي مائة وخمسون نصاً من نصوص الأوبانيشاد ولكن مائة وثمانية منها هي المعترف بها تقليدياً. معظم الأوبانيشاد نصوص نثرية يتخللها الشعر ولكن بعضها عبارة عن نصوص شعرية بالكامل. وأقصر نصوص الأوبانيشاد لا تزيد عن محتوى صفحة مطبوعة بينما أطولها يتكون من خمسين صفحة. ومن المعتقد أن نصوص الأوبانيشاد تم تأليفها بين القرنين الخامس والثامن قبل الميلاد.
الموضوع الرئيس للأوبانيشاد هو طبيعة «البراهمان» أو الروح الكوني؛ وهي تقدم شروحاً لطبيعة «الأتمان» أو النفس الداخلية الخفية لكل كائن، وعلاقتها بالبراهمان. وقد تمت كتابة شروح واسعة للصيغ المذهبية التي احتوتها الأوبانيشاد في كتابات منفصلة سميت بالكتابات الأوبانيشادية. أما الموضوعات الأخرى التي تحتويها فتضم طبيعة وهدف الوجود، والطرق المختلفة للتأمل والعبادة، وموضوعات تخص الموت وما بعد الموت، وأخيراً نظرية التناسخ.
نص من الأوبانيشاد:
«هناك طريقان، طريق الغبطة وطريق الشهوة وكلاهما يستهويان الروح. العاقل يسير في درب الغبطة بينما يختار الأحمق درب الشهوة».
الجزء الأول:
قام العجوز فاجاسرافاسا بتقديم كل ما أحضره للتضحية ولكن تقدمته لم تكن عن رغبة حقيقية في نيل ثواب السماء.
وكان للعجوز ولدٌ يدعى نيشيكيتس والذي على الرغم من أنه كان لا يزال غلاماً فقد كانت له رؤى إيمانية عبرت عن نفسها يوم تم تقديم الأضاحي وظهرت في أفكار دارت في نفسه:
فكر نيشيكيتس «هذه التقدمة الوضيعة المكونة من أبقار لا تنتج اللبن لكبر سنها ولا تأكل العشب لضعفها ولا تشرب الماء، لابد أنها لا تقود مقدمها إلا إلى عالم الندم».
ولذلك فقد قررتقديم نفسه ذاتها كأضحية، وسأل أباه قائلاً: «يا أبت إلى من ستهبني؟» سأل السؤال مرة، ومرتين، وثلاثاً؛ وفي المرة الثالثة فقط أجابه أبوه بغضب: «سأهبك إلى الموت».
قال نيشيكيتس: على رأس الكثيرين سأمضي، وبين الكثيرين سأكون. فما هو يا ترى عمل الموت الذي سيتم تنفيذه من خلالي في هذا اليوم؟
تذكر كيف مات الرجال في الماضي، وكيف سيموتون في الأيام القادمة: الفانون ينضجون كعناقيد الذرة ومثلها يولدون من جديد.
كان على نيشيكيتس أن يطوي أمام كوخ إله الموت (ياما) ثلاثة ليالٍ دون طعام.
هتف هاتف: يا إله الموت، عندما يأتي روح النار البرهمي إلى منزلك: قدم إليه قراه ماءً.
أي رجل أحمق ذلك الذي يمنع القرى عن البرهمي! إنه يفقد آمال مستقبله وحسنات ماضيه وثروة حاضره وأبناءه وكل أحبائه.
قال إله الموت: طالما أنك قد جئت إلى منزلي ضيفاً مقدساً ولم تتلق ضيافتك لثلاث ليالٍ؛ فإن لك أن تتمنى علي ثلاث أمنيات.
قال نيشيكيتس: إذاً فليهدأ غضب أبي وليتذكرني وليرحب بي عندما أعود إليه. تلك هي أمنيتي الأولى.
قال إله الموت: فبقوتي سيتذكرك أبوك ويحبك كما كان يفعل دائماً؛ وعندما يراك وقد تحررت من قبضة الموت، فإنه سيقضي ليلته في هناء.
قال نيشيكيتس: ليس في السماء خوف ولا شيخوخة ولا موت، والرجل الصالح يخلد في السماء في حياة لا يعرف فيها جوعاً ولا عطشاً ولا أسفاً.
إن أولئك الذين في السماء مخلدون. وأنت تعلم يا إله الموت أن النار المقدسة هي التي تقود الإنسان إلى السماء. فاشرح لي لأني مؤمن. ولتكن تلك هي أمنيتي الثانية.
قال إله الموت: إنني حقاً أدرك أن النار المقدسة هي التي تقود إلى السماء فاعلم إذاً أن النار وسيلة لبلوغ العالم اللانهائي كما أنها أساس ذلك العالم، أما مستقرها فإنه موضع مقدس في قلب الإنسان.
وقد حدثه إله الموت عن نار الخلق، وبداية الخليقة، كما حدثه عن عدد اللبنات التي يجب أن يبنى بها مذبح النار المقدسة وبأية طريقة يجب رصها. وقد ردد نيشيكيتس الدرس بعد أن وعاه الأمر الذي سر إله الموت فتابع قائلاً:
سأعطيك اليوم أعطية وهي أن نار الأضحيات ستدعى اعتباراً من اليوم باسمك ثم خذ إليك أيضاً هذه السلسة ذات الأشكال المتعددة. تلك هي النار التي تقود إلى السماء وقد اخترتها لتكون الأمنية الثانية. أما الآن يا نيشيكيتس فاختر الأمنية الثالثة.
قال نيشيكيتس: عندما يموت المرء، يبرز هذا الشك: البعض يقول "هو كذا" والبعض يقول «إنه ليس كذلك». فعلّمني الحقيقة.
قال إله الموت: حتى الآلهة كان لها هذا الشك في الأزمنة السحيقة؛ ذلك أن قوانين الحياة والموت غامضة. أطلب أمنية أخرى واعفني من هذه يا نيشيكيتس.
قال نيشيكيتس: لقد كان الشك هذا لدى الآلهة أيضاً، وأنت تقول يا إله الموت: أنه من الصعب فهم الأمر؛ ولكن ليس هنالك معلم أفضل منك ليعلمنيها، وليست هنالك أمنية أعظم من هذه.
قال إله الموت: خذ أحصنة وذهباً وماشية وفيلة؛ تمن أولاداً وأحفاداً يعيشون مئات السنين. امتلك أراضي واسعة الامتداد، وعش ما تشاء من السنين.
أو اختر هدية أخرى تعتقدها مساوية لهذا، وتمتع بها مع الغنى والعمر الطويل. كن حاكماً لهذه الأرض الممتدة. سوف أمنحك كل ما ترغب.
سل ما شئت من الأماني في عالم الفانين، مهما كانت صعبة البلوغ. سوف أعطيك خادمات حسناوات لخدمتك مع عربات وآلات موسيقية. ولكن لا تسلني يا نيشيكيتس عن أسرار الموت.
قال نيشيكيتس: كل هذه اللذات تفنى، هي نهاية كل شيء! إنهن ينهكن قوى الحياة ،إن الحياة قصيرة فاحتفظ بالأ حصنة والرقص والغناء.
المرء لا يمكن إرضاؤه بالثراء. أيمكن أن نهنأ بالثراء وأنت موجود يا إله الموت؟ ألنا أن نعيش وأنت مازلت؟ لا أستطيع أن أسأل أمنية غير ما سألت.
عندما يشعر الفاني هنا على الأرض بخلوده، أيمكنه أن يتمنى حياة طويلة من اللذات، ورغبات جميلة ملهية؟
إذاً فاكشف سر الغيب العظيم. هبني الهدية التي تكشف الغموض. تلك هي الهدية الوحيدة التي يمكن لنيشيكيتس أن يطلبها.
الجزء الثاني:
قال إله الموت: هناك طريقان، طريق الفرح وطريق الشهوة وكلاهما يستهويان الروح. العاقل يسير في درب الفرح بينما يختار الأحمق درب الشهوة. من يتبع الطريق الأول ينتهي إلى الخير؛ ومن يتبع طريق اللذات لا يصل إلى النهاية.
أمام المرء يوجد الطريقان وعندما يحتار فيهما، يختار العاقل طريق السعادة؛ بينما يسلك الأحمق طريق الشهوة.
لقد احترت واخترت يا نيشيكيتس ورفضت الملذات. ولم ترض بالنير الذي تمثله ممتلكات الإنسان الذي ينوء تحت ثقل ممتلكاته ويغرق تحتها.
هناك درب الحكمة وهناك درب الجهل. وهما متباعدان يقودان إلى نهايات مختلفة. وإنك يا نيشيكيتس من أتباع نهج الحكمة فكثير من الملذات لا تغريك.
الراسخون في الجهل يظنون أنفسهم حكماء ومتعلمين، أولئك الحمقى يتخبطون دون هدف كالأعمى الذي يقوده الأعمى.
أولئك الذين لهم عقول الصبية لا تشرق أمام أعينهم الحياة الآخرة وهم لا يهتمون أو انهم مغترون بالثروة. وهم يقولون ما يظنونه كلمة الفصل: "ليس هناك حياة أخرى" وإذ يقولون ذلك فإنهم يرحلون من موت إلى موت.
هناك الكثيرون الذين لم يسمعوا عنه، ومن بين أولئك لا يصل إليه إلا القليل. مبارك ذلك الذي يعلم شيئاً عنه وحكيم هو ذلك الذي يتعلم والرائع هو الذي يتمكن من معرفته عندما يتلقى العلم.
من لم يصل إليه لا يمكن أن يعلم. ولا يتسنى الوصول إليه بإمعان التفكير. والطريق الوحيدة للوصول إليه إنما تكمن في وجود المعلم الذي سبقت له معرفته؛ فهو لا تدركه العقول وهو في الحقيقة أعلى من كل ما يمكن أن يخطر لها.
المعرفة المقدسة لا يمكن الوصول إليها عبر المنطق ولكنها توهب للإنسان من معلم حقيقي. ولأن عزمك ثابت فقد وجدت معلمك وليتني أجد تلميذاً آخر مثلك.
إنني أعلم أن الكنوز تفنى وأنه لا يمكن الوصول إلى الخالد عبر الفاني ولذلك فقد جعلت نيران نيشيكيتس للتضحية، وبإحراق الفاني فيها يتم الوصول إلى الخالد.
لقد بسط أمام عينيك يا نيشيكيتس وعرض عليك تحقيق كل الرغبات وحكم العالم والجزاء الخالد في شاطئ الأمان حيث لا خوف، وعظمة الشهرة والفضاءات التي لا حدود لها. ولكنك بقوتك وحكمتك رفضتها جميعها.
عندما يجعل الحكيم همه الوحيد التفكير في الإله المتعالي على الزمن والذي يسكن في خفاء غموض الأشياء وقلوب البشر عندها فقط يتعالى الحكيم على الشهوة والألم.
وعندما يلقي الإنسان سمعه ويفهم وعندما يجد الجوهر يصل إلى اللب، وهناك يلتقي بمصدر السعادة. إنك يا نيشيكيتس بيت مفتوح للأتمان إلهك.
قال نيشيكيتس: قل لي ماذا ترى وراء الحق والباطل، ووراء ما تم وما لم يتم، ووراء الماضي والمستقبل ؟
قال إله الموت: سأخبرك الكلمة التي تقدسها كتب الفيدا، والتي تعبر عنها كل تضحية بالنفس وكل الدراسات المقدسة والتي تبحث عنها كل حياة مباركة. إن هذه الكلمة هي "أوم".
إن تلك الكلمة هي البراهمان الأبدي، تلك الكلمة هي النهاية العليا. وعندما تعرف تلك الكلمة المقدسة فإن كل الأشواق تجد مبتغاها.
إن المعنى الأعلى للخلاص هو عون المتعال. وعندما يعرف تلك الكلمة العظيمة يصبح المرء عظيماً في جنة براهمان.
إن أتمان "روح الرؤى" لا يولد ولا يموت. لم يكن قبله شيء، وسيبقى وحده إلى الأبد. الخالد الذي لم يولد، المتعالي على الأزمان الماضية والآتية، والذي لا يموت عندما تموت الأجساد.
إذا ظن القاتل أنه يقتل، وإذا ظن المقتول أنه يموت، فإن كلاهما بعيدان عن الحقيقة. فالخالد في الإنسان: لا يستطيع أن يقتل كما أن الخالد في الإنسان لا يستطيع أن يموت.
إن الأتمان مخفي في قلوب كل الكائنات، هو الروح، وهو النفس؛ وهو أصغر من أصغر الذرات، وأوسع من الفضاء الشاسع. الإنسان الذي يتخلى عن بشريته سيخلف أحزانه وراءه، وسيحوز مجد الأتمان برحمة من الخالق العظيم.
عندما يرتاح، يجوب الآفاق؛ وعندما ينام، يستطيع الذهاب إلى كل مكان. من يعرف مثلي إله الأفراح والأتراح ذاك؟
عندما يدرك الإنسان الروح الخالدة، التي تكمن خفية في المرئي وخالدة في الفاني، عندها فقط يتجاوز الأحزان.
ليس بكثرة العلم يصل الإنسان إلى معرفة الأتمان، ولا بالثقافة ودراسة العلوم المقدسة. إنما يصل إليه من اختارهم هو لأنهم اختاروه. ولا يكشف الأتمان عظمته إلا لهم.
حتى المعرفة العميقة لا توصل إلى الأتمان، ما لم يقم الإنسان بهجر طرق الشر، وما لم تكن هناك سكينة في الحواس، وتركيز للعقل وسلام في القلب.
أين ذلك الذي يعرف حقاً؟ إن قوته الجليلة تغوي الكهنة والمحاربين، بل إن الموت نفسه يقع في الغواية.
الجزء الثالث:
في المكان العالي المقدس من القلب هناك كائنان يرتشفان رحيق الحياة في عالم الحقيقة. أولئك الذين يعرفون البراهمان. وأولئك الذين يحافظون على جذوة النيران المقدسة الخمسة التي تضيء نيران نيشيكيتس الثلاثية. أدعها "النور" و"الظل".
هلم بنا نشعل نيران نيشيكيتس المقدسة، فهي الجسر الذي نعبر به إلى الشاطئ الآخر حيث لا يوجد خوف، وحيث توجد الروح العليا الخالدة.
إعلم أن الأتمان هو بمثابة مالك العربة؛ وأن الجسد هو العربة نفسها. أما الفكر فاعلم أنه بمثابة قائد العربة، والعقل هو العنان. أما الحواس فهي الأحصنة كما يقال؛ والطريق الذي تسلكه هو ما تتلقاه الحواس.
عندما تتحد الروح بالعقل والحواس يوجد الإنسان ذلك الواحد الذي يعاني الأفراح والأتراح.
إن صاحب العقل المضطرب الذي يسيء فهم الأمور، لا يحسن قيادة مجرى حياته مثله في ذلك مثل الفارس الرديء الذي يقود أحصنة متوحشة.
أما ذو العقل المستقر الذي يحسن فهم الأمور، فهو حاكم حياته، مثله في ذلك مثل الفارس الماهر الذي يقود أحصنة مروضة.
الذي يسيء تقدير الأمور هو شخص لا مبال ولا يتصف بالنقاء، إنه لا يصل أبداً إلى نهاية الرحلة؛ بل إنه يتخبط من موت إلى موت.
أما ذلك الذي يحسن تقدير الأمور فهو شخص متنبه ونقي، وهو يكمل الرحلة إلى حيث اللاعودة إلى العالم الفاني حيث يوجد الموت.
الشخص الذي يقود الفكر عربته، والذي يتنبه ويحكم قبضته على أعنة عقله يصل إلى نهاية رحلته، إلى الروح العليا الخالدة.
تقف الموضوعات خلف الحواس، وخلف الموضوعات يقع العقل، وخلف العقل يقع الفكر الخالص، وخلفه تقع روح الإنسان.
خلف الروح يوجد الكون وخلفه يوجد "بروشا" الروح العليا. ولا شيء خلف بروشا: فهو نهاية الطريق.
إن نور الأتمان، الروح، مستتر في كل الكائنات. وإنما يرى بإلهام ذوي الرؤى، عندما تكون رؤاهم مخلصة وصافية.
يخضع الحكيم الكلام للعقل، والعقل للذات العارفة، والذات العارفة لروح الكون في روح السلام.
استيقظ وقف! وانطلق وجاهد لبلوغ الأسمى، قف في النور! يقول الحكماء: أن الصراط ضيق وصعب لمن يرتاده، ضيق كحد الموسى.
تنزه الأتمان عن كل شكل وصوت، وعن اللمس والذوق والشم تنزه. إنه خالد لا يتغير ليس له أول ولا آخر: ولا تحيط به الأفكار. وعندما يتجلّى في الإنسان إيمانه بالأتمان يتحرر الإنسان من قبضة الموت.
الحكيم الذي يتعلّم ويعلّم قصة نيشيكيتس القديمة هذه والتي مصدرها "ياما" إله الموت، سينال المجد في عالم البراهمان.
المخلص المليء بالإخلاص يقرأ اللغز الأكبر في اجتماعات البراهميين، وفي احتفالات "شادها" التي تقام للمتوفين لإعدادهم للخلود، إنه حقاً يعد للخلود.
****
جعل الخالق الحواس دليلاً على المحيط: إنها تتجه إلى عالم المادة في الخارج، لا إلى الروح في الداخل. ولكن الحكيم الباحث عن الخلود نظر إلى داخل ذاته ووجد روحه.
الأحمق يجري خلف الملذات الخارجية ولذلك فإنه يقع في أشداق الموت الفاغر فاه وبين أنيابه، أما الحكيم فإنه يجد الخلود، ولا يبحث عن الأبدي في الأشياء الزائلة.
نصل إلى المعرفة بنفس الوسيلة التي ندرك بها الألوان والأصوات والروائح وقبلات الحب، فبها نستطيع أن ندرك أي شيء:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
عندما يدرك الحكيم أننا إنما نسير أو نحلم بواسطة الروح العظيمة الخالدة فينا، عندها فقط يتجاوز الندم.
وعندما يعلم أن الأتمان والذات الظاهرة والذات العميقة التي تفرح كما يفرح النحل برحيق زهور الحواس، ويدرك رب ما كان وما سيكون، عندها فقط يتجاوز الخوف:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
كان الإله الخالق نور الفكر قبل أن توجد المياه وظهر في العناصر ثم استقر في القلوب:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
آلهة المتناهيات التي تأتي على شكل قوة الحياة والطبيعة ولدت من العناصر والأشياء ثم استقرت في القلوب:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
إن «آجني» إله النار العارفة يختبئ في ثنايا خشبتي نار الأضاحي المقدسة اللتين يتولد منهما بالاحتكاك، كبذرة الحياة في رحم الأم، يستقبل صلوات الصباح لأولئك الذين يتبعون طريق النور أو يسلكون طريق العمل:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
في المكان الذي تشرق منه الشمس تغيب مرة أخرى؛ حيث تولد كل الآلهة وحيث لا بشراً يصل:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
ما هو هنا هو هناك، وما هو هناك هو أيضاً هنا.
الذي يرى الكثرة ولا يرى الواحد، يتخبط من موت إلى موت.
وحتى العقل يجب أن يتعلم هذه الحقيقة «إنه لا يوجد كثرة بل الواحد فقط». الذي يرى التعدد ولا يرى الوحدة يتخبط من موت إلى موت.
النفس تسكن فينا كلهب بحجم الإبهام. وعندما نعرف أنها إله الماضي والحاضر، عندها فقط تتلاشى كل المخاوف:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
كلهب بلا دخان وبحجم الإبهام هي الروح؛ رب الماضي والمستقبل هو نفسه رب اليوم والغد:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
الماء الذي يجري على سفح الجبل تشتته الصخور إلى كل الجهات، وكذلك الشخص الذي لا يلاحظ إلا تعدد الأشياء يجري وراءها في كل اتجاه.
ولكن الماء النقي الذي يمطر على الماء يتحد معه وكذلك تصبح يا نيشيكيتس نفس الحكيم الذي يعلم.
الجزء الخامس:
تسكن الروح الخالدة النقية في قلعة الجسد ذات الإحدى عشرة بوابة. وعندما يحكم الإنسان قلعته يتحرر من الندم بعد أن يتحرر من كل العلائق يجد حريته.
«هو الشمس في الفضاء وهو الريح في السماء؛ وفي المعبد هو الكاهن، وهو الشراب في الجرة. يسكن في الناس وفي الآلهة وفي أرجاء السماوات الواسعة. هو في الأرض وفي الماء وهو في صخور الجبال. إنه الحق والقوة ».
تتعبد قوى الحياة لله الذي يسكن القلب والذي يحكم أنفاس الحياة التي تتردد داخلة وخارجة.
عندما تنحل العلائق التي تربط الروح بالجسد وتتحرر الروح، ماذا يتبقى إذاً؟
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
إن الفاني لا يعيش بتلك الأنفاس التي تتردد داخلة وخارجة وإنما مصدر حياته شيء آخر يجعل الأنفاس تتردد.
أما الآن فإني سأحدثك عن أسرار البراهمان الخالد، وما يحدث للنفس بعد الموت.
النفس يمكن أن تتجه إلى رحم إحدى الأمهات فتتخذ لها جسداً جديداً. بل إنها يمكن أن تتجه إلى الأشجار والنباتات، وذلك يتوقف على مقدار حكمتها ونوع أعمالها السابقة.
هناك روح مستيقظة في منامنا تخلق عجائب الأحلام. إنه براهمان، روح النور، والذي في الحقيقة يدعى الخالد. كل العوالم تستقر في الروح ولا يمكن لأحد أن يتجاوزه:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
كالنار التي تغير شكلها مع اختلاف ما يحترق على الرغم من أنها ذات طبيعة واحدة، فإن الروح، على الرغم من أنها واحدة، تتخذ شكلاً جديداً في كل شيء حي. إنه موجود في داخل الكل، كما أنه في الخارج أيضاً.
كما أن الريح وهي واحدة تتخذ شكل ما تدخل فيه، فإن الروح وهي واحدة تتخذ أشكالاً جديدةً في كل الأشياء الحية إنه موجود في داخل الكل، كما أنه في الخارج أيضاً.
كما أن الشمس المهيمنة على العالم لا يسمها دنس الأشياء الأرضية فكذلك الروح المستقرة في كل الأشياء لا تتأثر بالآلام الخارجية.
هناك حاكم واحد، الروح الذي في كل الأشياء والذي يحول شكله الخاص إلى أشكال عديدة. العاقل فقط هو الذي يراه في النفوس فينال الفرح الأبدي.
هو الخالد في كل فانٍ، والضمير الحي في ضمير كل حي، الواحد الذي يستجيب لصلوات العديدين. والعقلاء فقط هم الذين يرونه في أنفسهم لينالوا السلام الأبدي.
"هذا هو ذاك" وبه يدركون السعادة التي لا تخطرعلى قلب بشر. كيف يعرف "ذاك"؟ هل يعطي النور أم يعكس النور؟
لا تشرق الشمس هناك ولا القمر ولا النجوم، ولا يبرق الرعد هناك أيضاً ناهيك بالنيران الأرضية. نوره يمدها كلها بالنور، وإشعاعه يضيء الوجود.
الجزء السادس:
شجرة الخلود جذرها في السماء هناك في الأعلى وأغصانها تصل إلى الأرض. إنه براهمان الروح الخالص والذي يدعى الخالد حقاً. كل العوالم تستقر على الروح ولا أحد قادر على الذهاب أبعد منه:
وهذا في الحقيقة هو ذاك.
هو مصدر الكون وحياته تشعل الحياة في الكون كله. الرعد يستمد جلاله من قوته. والذين يعرفونه نالوا الخلود.
تشتعل النيران من خيفته، ومن خيفته تشرق الشمس. وخوفاً منه تسير السحب وتهب الرياح ويقوم الموت نفسه بعمله.
من حظي برؤيته في هذه الحياة قبل موت الجسد، تحرر من العلائق، وإن لم يفعل فإنه يموت ويحيا في عوالم أخرى وفي خلق جديد.
لا يرى البراهمان إلا من نفس لها نقاء المرآة وكنقاء المرآة يرى. وفي سمائه يكون شفافاً كالضوء؛ ولكن في أرض الظلال لا يرى إلا كذكرى غائمة في حلم، أما في عالم الأرواح فإنه يُرى كإنعكاساتٍ على صفحة ماء مضطربة.
عندما يدرك الحكماء أن الحس المادي لا يأتي من الروح، وأن سعيهم ونومهم يرجع إلى طبيعتهم، عندئذٍ لا يشعرون بالحزن أبداً.
فيما وراء الحواس يوجد العقل وفيما وراء العقل يوجد الفكر، الذي هو جوهره. ووراء الفكر يوجد الروح في الإنسان أما وراء ذلك فيوجد روح الكون، باعث الجميع.
وفيما وراء ذلك يوجد "بروشا" العصي على الوصف. وعندما يعرفه الفاني فإنه ينال الحرية ويدرك الخلود.
لا تدركه الأبصار ولا تراه عين فانية. إنه يرى بقلب طاهر وعقل ذي أفكار نقية. أولئك الذين يعلمون يصلون إلى الخلود.
عندما تسكن الحواس ويهدأ العقل بلا حراك ويغرق الفكر في الصمت تتضح طريق الأعلى.
هذا الهدوء الوقور للحواس يسمى "اليوجا". ولكن عليك التنبه فاليوجا تذهب وتجيء.
لا تدركه الأفكار ولاتصفه الكلمات ولا تدركه الأبصار. فكيف يدرك إلا به ومن ذا الذي يقول أنه هو؟
بإيمان "هو" يتجلى وجوده، وفي جوهره يجب أن يتجلى، وعندما يدرك أنه "هو" عندئذٍ تسطع أنوار جوهره.
عندما يتخلى الإنسان عن كل الرغبات الملتصقة بالقلب، يصبح الفاني خالداً، وحتى في هذا العالم يتحد مع البراهمان.
عندما تنحل علائق القلب، يصبح الفاني خالداً. وهذه هي التعاليم المقدسة.
هناك مئة طريق وطريق خفية ودقيقة تمتد من القلب. واحدة منها فقط ترتفع إلى قمة الرأس. وتلك هي الطريق التي تقود إلى الخلود؛ أما البقية فإنها تقود إلى نهايات مختلفة.
يسكن الأتمان في جميع الكائنات، "البروشا"، الذات، لهب صغير في القلب. دع أحداً يشده بثبات من الجسد كما يشد الخيط من قطعة القماش. إعرف هذا النور الخالد، تعرف بحق إلى هذا النور.
وهكذا تعلم نيشيكيتس الحكمة العليا التي ألقاها إليه إله الحياة الأخرى، وبذلك أدرك كل التعاليم التي تخص الوحدة الداخلية، تعاليم اليوجا وهكذا وصل إلى البراهمان، الروح العليا، وأصبح خالداً نقياً. وكذلك سيكون كل من عرف بصدق "أتمانه"، ذاته العليا.
الـريج فيدا:
الريج فيدا هو أقدم أقسام الفيدا أكثر النصوص قدسية لدى الهندوس. ويرجع تاريخ وضعه إلى ما قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة عام. وكان في الأصل مدونا باللغة السنسكريتية. ويحتوي الريج فيدا على أكثر من ثلاثة آلاف أنشودة مكرسة للعديد من الآلهة. والأنشودة التالية تحتوي على وصف غامض لبداية الكون. ويقول البروفيسور وندي دونيجر استاذ تاريخ الأديان والدراسات الهندية في جامعة شيكاغو في وصف لهذا النص: "هذه الأنشود رغم بساطة تركيبها اللغوي إلا أنها مثيرة للغاية من حيث المضمون، بحيث استثارت تعليقات شتى من قبل لاهوتيين هنود ودارسين غربيين. وهذه الأنشودة تبدو كما لو كانت تتعمد إثارة الحيرة والتحدي بطرحها لأسئلة لا يمكن الإجابة عليها، إضافة إلى مراكمتها للألغاز."
الانشودة من الـريج فيدا:
لم يكن هناك وجود ولاعدم آنذاك؛ ولم يكن هناك الفضاء ولا السماء التي بعده. فما الذي نشأ؟ وأين؟ ومن حماه؟ هل كان هناك ماء عميق بلا قرار؟
لم يكن هناك موت ولا خلود آنذاك. ولم يكن للنهار أو الليل ما يميزهما عن بعضهما. تنفس الواحد بلا هواء، بإرادته. ولم يكن ثمة شيء غيره.
في البداية كان الظلام يطوي الظلام؛ بلا علامة مميزة، كل ذلك كان ماء. وقوة الحياة التي كان يخفيها الخلاء أيقظتها قوة الحرارة.
الرغبة كانت البداية، وأول ما انبثق عن الواحد، فكانت بذرة العقل الأولى. الشعراء الذين بحثوا في قلوبهم بحكمة وجدوا روابط الوجود في العدم.
حبلهم كان ممتداً. فهل كان هناك تحت؟ وهل كان هناك فوق؟ كان هناك باذرو البذور؛ كانت هناك قوى. كانت الإرادة تحتها؛ وكان العطاء فوقها.
من الذي يعرف حقاً؟ ومن الذي سيدعي هنا ذلك؟ من أين جلبت وجبلت؟ ومتى كان هذا الخلق؟ الآلهة جاءت فيما بعد، مع خلق الكون. فمن الذي يعرف إذن متى كانت النشأة ؟
من أين جاءت هذه الخليقة - ربما شكلت نفسها، وربما لم تفعل - الوحيد الذي يعرف هو ذلك الذي يطل عليها من أعلى السماوات - أو ربما أنه لا يعرف.
الجـانـيــة:
الجانية ديانة هندية يدين بها حوالي أربعة ملايين هندي. وتنتشر الجانية في ولايات راجستان، وجوجرات، وأجزاء من ولاية مومباي، وفي ولاية كارناتاكا (ميسور)، إضافة إلى المدن الكبرى في شبه القارة الهندية. وعلى الرغم من قلة عدد الجانيين بالنسبة لعدد سكان الهند، فإن لهم تأثيراً كبيراً على المجتمع الهندي يفوق نسبتهم العددية، نظراً لأن معظمهم يعملون في التجارة ويمتلكون أنشطة اقتصادية مهمة.
المنشأ
تشبه الجانية الديانة البوذية التي كانت أحد أهم خصومها في الهند. وقد أسس الجانية فاردامانا جناتي بوترا الذي عاش في الفترة ما بين (527-599) قبل الميلاد، معاصراً للبوذا. وقد سمي جينا أو الغازي الروحي.
وينكر الجانيون، مثلهم في ذلك مثل البوذيين، الأصل الإلهي المزعوم للفيدا. وإن كانوا يجلون بعض الحكماء الأقدمين كمبشرين بالجانية منذ القدم، ويضفون عليهم صفة القداسة (تري ثانكارا) ومعناها الأنبياء المؤسسون للطريقة. ويعتقد الجانيون أن هؤلاء الحكماء كانوا واقعين في اسر الحياة، ولكنهم تمكنوا من التخلص من العلائق التي تربطهم بها بجهودهم الخاصة، وأنهم يوفرون للإنسان طريقة الخلاص من محيط الوجود الظاهري وسلسلة الولادة المتكررة.
العقيدة:
ويقبل الجانيون عملياً بالنظام الطائفي. ويمارسون ستة عشر طقساً مخصصة للطبقات الهندوسية الأولى الثلاث. كما أنهم يعترفون ببعض الآلهة الصغرى في مجمع الآلهة الهندوسي.
ويعتقد الجانيون: أن نشاط العقل والكلام والنشاط البدني تولدّ نوعاً من الكارما التي تسبب الارتباط بالحياة. وأن على المرء أن يتجنب العنف حتى لا يؤذي أيّ كائن حي. ويعتبرون أن سبب الكارما هو سكنى الروح في الأجساد. وأن الخلاص الروحي (موكشا) يتطلب تحرير النفس من الكارما من خلال ممارسة الجواهر الثلاثة وهي: الإيمان الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والسلوك الصحيح.
وتلزم هذه الجواهر والمبادئ جميع الجانيين. إلا أن هناك فرقا في الواجبات الدينية لطبقات الرهبان الـ(ياتيس)، فهؤلاء ينبغي عليهم الالتزام بخمسة واجبات كبيرة هي: رفض إلحاق الأذى (أهيمسا) ،والصدق (ساتيا)، ورفض السرقة (آستيا)، والتحفظ الجنسي (براهما كارثا)، والامتناع عن قبول هدايا غير ضرورية أو كبيرة القيمة (أياري جراها).
ويقوم الجانيون: بممارسات متطرفة في سبيل تجنب إلحاق الأذى بالكائنات الحية. فهناك منهم من يضع قماشاً على فمه حتى لا تتضرر حشرة بالدخول في فمه. كما يحملون فراشي لينة لتنظيف أي مكان يهمون بالجلوس عليه، حتى لا يلحقوا أذى بأي كائن حي قد يكون موجوداً في المكان.
وينقسم الجانيون إلى طائفتين هما الـ(ديجاما بارا) أو العراة ثم (سفيتاما بارا) أو لابسو الثياب البيضاء. وقد أنتجت كلتا الطائفتين أدبا دينيا كثيراً بالسنسكريتية والبراكريتية. وتشبه معابد الجانيين المعابد البوذية وخاصة تلك المنحوتة في الصخر، كما تشبه كتبهم الكتب البوذية من حيث تزيينها بالرسوم.
وقد ظهرت طائفة جانية جديدة في القرن الثامن عشر بدت متأثرة بالإسلام في رفضها للمعابد والطقوس المعقدة. واستبدلت بهما أماكن غاية في البساطة تسمى (شاناكا) وهو الاسم الذي غلب على الطائفة فسميت الـ(شانكافاسية).
- الجانية و الظواهر الخارقة:
( للبروفسور رامجي سنج):
الجانية ظاهرة مهمة في التاريخ الديني للبشرية . انها معروفة جيدا باعتبارها نظاما فلسفدينيا لا براهميا مهما يمثل الرسالية الروحية لثقافة تبشيرية تمتاز بافتراقها الكبير عن التقاليد الفيدية السائدة في الهند. ان جملة البنية الضخمة للجانية تقوم على مبدأ واحد يقول إن « الحياة عزيزة على الجميع» . هذا النزوع الى احترام الحياة يسمى اللاعنف ( اهمسا) أو الحب الإيجابي. ذلك هو المسيح. وذلك هو غاندي . إن الحب هو أساس الحياة والدين وهذا معبر عنه في « السعي الهادف إلى إزالة البؤس أو التخفيف منه » و « ضمان الرفاهية » للإنسان . وبعبارة أخرى فان الشخصية هي الحقيقة العليا .
ولذلك فإن مجمل تركيز الجانية ينصب على قيمة وكرامة الإنسان و القداسة الضمنية " في شخصيته والتي وحدها تستطيع "رفع البشرية إلى المستوى السامي للألوهيه". إن أي نوع من الخضوع هو نفي تام لقيمة الشخصية وهو عمل لا أخلاقي بالنسبة لروحية التحقق الذاتي . ولذلك فإن الروحية الجانية هي خصم لكل أنواع القسر والتعصب سواء في الكلمة أو الفعل والتفكير . إن أي نوع من الإطلاق أو الهيمنة ( الإمبريالية) في أي فكر هو معادٍ لروح الجانية. وصف ( ياسو فيجايا) المنطقي الجاني العظيم في القرن الثامن عشر الميلادي، وجهة النظر الجانية بقوله "إن الجانيين لديهم موقف متعاطف تجاه كل الأديان تماما مثل الام التي تحب كل أطفالها على السواء". ويذهب أحد فلاسفة الجانية المفكرين ( سيتد هازينا ديفاكارا) من القرن الخامس الميلادي، إلى ابعد من ذلك بتأكيده القائل "إن وجهات النظر المتعددة مجتمعة تتضمن مبدأ الجانية." اما (انان داجانا) من القرن الثامن عشر وهو مفكر جاني آخر فانه يصف وهو في حالة صفاء روحي غير عادي الأنظمة الستة للفلسفة الهندية بأنها أشكال مختلفة من ذات الأم الإلهية العذب الرؤوم. ويبدو أن "الجانية قد حاولت التوفيق بين هذه الأنظمة الروحية المتعادية عن طريق توسيع الرؤية عبر ما يسمى ( سياد فادا او انيكانتا فادا) ."
انيكانتا فادا او مبدأ تعددية الحقيقة هو مبدأ مفاده أن الحقيقة نسبية لدى كل وجهات النظر.
ان طبيعة الحقيقة معقدة جدا. ولها خصائص وسمات لا تحصى. ولكن هناك حدودا للمعرفة البشرية والحقيقة انما تعطى لنا في وجهات نظر جزئية متعددة . ولا يعتبر اتباع واحدة منها انكاراً لأخرى. فلا احد يستطيع امتلاك الحقيقة. ان الاحتكار في مملكة الحقيقة والمعرفة هو أمر مستحيل إلا لمن هو كلي المعرفة. وما ذكرناه هو سمة نمطية للسلوك الجاني الرافض للإطلاق ويمثل الأساس الميتافيزيقي لمبدأ اللاعنف في التفكير.
ان كل الحيرة الفكرية التي تسود العالم إنما هي نتيجة لغياب البحث المتصف بالشمول، و نتيجة للقبول بجزء من الكل . وغالبا ما تكون كل خلافاتنا مجرد تكرار لضلال العميان الذين تحدث كل منهم بشكل مختلف عن نفس الفيل الذي أتيحت لهم رؤيته للحظة واحدة فقط. ولذلك فنحن نرى ان الحقيقة ليست حكرا على أحد. ويطلب منا هكسلي ان نقنع الناس بأن كل مقدس مهما كان نبله الظاهر فإنه في الحقيقة ليس إلا غولا يلتهم عابديه. وبعبارة أخري إن من المميت التعامل مع النسبي ومع الفكرة الخاصة المصنوعة في المنزل كما لو كانت هي المطلق.
كل دوغما « يعود فضل تكونها إلى هذه الجزئية في النظر وهذا الولع بخط التفكير الذي عود الشخص نفسه عليه». وتقول (مدام بلايفيسكي ) « عندما تقوم جماعة أو أخري باعتبار نفسها المالكة الوحيدة للحقيقة المطلقة فإن من الطبيعي إن تتصرف مثل ذلك الشخص الذي ينظر إلى جيرانه باعتبارهم خاطئين وشياطين» ولذلك وطالما ان النظرية والتجربة متداخلتان فان الجانية على حق فيما قدمته من أساس نظري لازم للعقيدة العملية الخاصة باللاعنف . إن الانكانتا فادا أو مبدأ تعددية اوجه الحقيقة هو امتداد للاعنف ( الاهمسا) في نطاق الفكر.
الدين والظواهر الخارقة:
ربما كان الدين " أول محاولة للإنسان ليوضح لنفسه مكانته في الكون" . لكن وعلى الرغم من الجهود التي استمرت آلاف السنين وعلى الرغم كذلك من مضي مئات السنوات على الأبحاث النفسية المنهجية فان هذه المسألة تظل غامضة إلى حد كبير ولم يتم حلها بعد. إن دماغنا لا يزال لغزا ولا يعلم أحد انه لن يستمر كذلك طالما ظللنا نتخبط في نفس دروب البحث ضمن تخوم الدماغ . على أي حال فان الدين الذي يتلاءم مع الفلسفة الحديثة هو ذلك " المنعزل عن الواقع والغير المستجيب للذكاء. ومن ثم فان دينا غير عقلاني فقط يمكنه أن يكون مناسبا لمتطلباتهم الفلسفية ." أعطيت ، كلمة دين في الفكر الهندي مدلولا إضافيا لا تتضمنه اللفظة اللاتينية. انه يسمى ( دارما). والدارما كما تعرفه ( اني بيزنت ) « بأنه الطبيعة الداخلية التي بلغت لدى كل إنسان مستوى معينا من التطور والانفتاح» وعلى أي حال فان كل دين هو « عملية ذات وجهين ، وجه باطني وآخر خارجي: فهو من وجهة نظر أولى حالة من الإيمان والشعور والاستسلام الروحي الداخلي، ومن وجهة نظر أخرى هو تعبير عن الاستسلام الخاضع المتمظهر في تصرفات مناسبة ( طقوس)» وانطلاقا من هذا ونظرا لأن الاهمسا هي جوهر الجانية فإن الجانب الباطني من الديانة الجانية يتضمن تحققا روحيا من خلال ممارسة اللاعنف ( اهمسا) وذلك في الكلمة والفعل والتفكير. ومع ذلك تجمع الجانية النسبية المعرفية ( سيادفادا وانيكانتافادا) الثنائي الميتافيزيقي للعقل والمادة وتعددية عددية من 9 عناصر أساسية وتجاوزا اجتماعيا للذات يتأتى عن طريق ممارسة مظاهر مختلفة من اللاعنف والصدق الخ.... وفي نسيجها الروحي تشاطر الجانية واقعية الفيدا ومثالية الأوبانيشادوالطائفية الدينية للبورانا، والغنىالمفعم بالألوان للاناشيد وروح التحليل المنطقي للنايايكاس ( المناطقة الهنود) والثنائية الميتافيزيقية لذرية الفايسيسيكا و الصامخياس وصوفية اليوجيين وبعض التقاليد الرهبانية للادفايتا فيدانتا والروحية الثورية للمادية الهندية لوكاياتس وحس العطف لدى بوذا. وكدين فإن لدى الجانية تاريخا مغرقا في القدم وحسب كثير من المفكرين فإن الجانية هي اقدم من البوذية ويقول جيوتي براساد جانا « إن الجانية هي اقدم دين على قيد الحياة» . وهناك آخرون يقولون: إنها الإيمان البدائي للبشرية.
قبل ان نناقش العلاقة بين الظواهر الخارقة والدين دعونا نناقش اولا وبسرعة الظواهر الخارقة ذاتها. ماهي؟ هل هي مجرد خرافة فجة او انها محاولة منظمة لخداع الجماهير باستخدام الخرافة والكذب لمصلحة البرجوازيين والرجعيين؟. المؤيدون قد يجادلون بأن هناك اسماء لمفكرين وعلماء بل ورؤساء وزارات من امثال جيرلد بلفور وجلادستون ووالاس وثمسون و غيرهم ترتبط اسمائهم بالظواهر الخارقة ولكن معارضا قد يرد قائلا : ان السير وليام كروك كان فيزيائي عظيم ولكن ذلك لا يتضمن امكانية ان لا يكون قد خدع بمسألة لا تتعلق بالفيزياء. وهناك الكثير مما قيل حول هذا الموضوع فقد قال جلادستون مثلا ان البحث الذي يجري حول الظواهر الخارقة هو اهم بحث على الاطلاق.
اما برجسون فقد قال : ان هذا العلم الجديد سيعوض قريبا كل الزمن الضائع. وفي تلخيص لانس باشر يقول: الاعتقاد بأن كل شيء تم اكتشافه هو امر ظاهر الخطل يشبه الاعتقاد بأن خط الافق يرسم حدود العالم. علم الظواهر الخارقة ليس دينا انه علم الظواهر الخارقة وحسب وهو ليس دينا ولكنه مجرد فرع من العلم وظيفته البحث في طبيعة الشخصية الانسانية.
ويمكن القول بصورة غير مباشرة : ان اهمية البحث في الظواهر الخارقة بالنسبة للدين تكمن في ما يحمله البحث من وعود بكشف خلفية اوسع كثيرا عن الفكر اكثر مما تم توفيره بواسطة الفلسفة العلمية السائدة. لقد ظل العلم يستكشف غالبا العالم الخارجي ولكن هذه الروح هي مجال لا يزال بحاجة الى الاستكشاف.. إن الإنسان لغز غامض أو هو معجزة طبقا لكارلايل، وعقل الانسان هو لغز بامتياز .
- الجانية والظواهر الخارقة:
(سايكلوجية الروح وظاهرة الكارما )
يؤمن الجانيون بمبدأ الروح الذي يشكل الأساس لسايكولوجية عليا والتي تسمى في الاوساط الشعبية بخوارق العادات او ما وراء علم النفس. إن فكرة اعتبار علم النفس علما للروح تبدو قديمة جدا . فقد كان هناك زمن فقد هذا العلم فيه عقله. أما الآن فالظاهر انه قد فقد ضميره ايضا. ونأمل ان يكون هذا هو الحال الآن وليس في المستقبل . فحتى علماء النفس المعاصرون يجدون أنفسهم عاجزين عن الاستغناء عن الروح . ويعتبر كتاب يونج الموسوم« الإنسان الحديث في بحثه عن الروح» الصادر في لندن عام 1934 خريطة إيضاحية تفصح عن هذه الحقيقة. ان حقيقة الذات هي مسألة بديهية للمتشكك. ويعتبر جيمس ان الاعتراف بالروح هو خط المقاومة المنطقي الاضعف . ان سيكولوجية الروح في الجانية لا تهتم بمجرد قياس الاحساس او بأثر العواطف على الجسد الخارجي ضمن النظام الباطني . ولكن من جهة اخرى إن للروح قدرة موروثة لكل الاشياء وهذا نابع من مبدأ اللانهائيات الاربعة للروح. وكل روح تمتلك في داخلها قدرة لانهائية للإدراك وقدرة لانهائية للفهم وقوة لانهائية وبركة لانهائية . إن الضمير هو الميزة الأكثر أساسية للروح وعلى أي حال فإن هذا الكمال للروح لايظهر إلا بعد تدمير وإزالة الحواجز الكارمية. وهذه الكارما هي أساس السيكولوجية الجانية . فظاهرة الكارما هي المبدأ الجذري للتخمين الهندي الذي بلغ ذروته في الايديولوجية الجانية. فكما ان هناك قانون السببية في العلم ومبدأ التنبؤ الفيزيائي في سيكولوجية فرويد، فإن هناك مبدأ الكارما في مجال الحياة الأخلاقية . وهذا يعني ان الإنسان يحصد ما يزرع . وكل تصرف له عواقبه. فإذا لم تظهر العواقب كاملة في فترة حياة الإنسان فإن هذه العواقب تطالب بإعادة ولادته وهذا يتضمن بدوره معنى أن من ولد من جديد إنما يدفع ثمن أفعاله أو هو تعبير عن لا أخلاقية هذه الروح. وبالنسبة لهم فإنه لايمكن شرح تنوع الكون واسباب انعدام المساواة بين البشر في المراكز الدنيوية و الامتيازات إلا من خلال فرضية الكارما.
البــوذيــة:
البوذية هي إحدى الديانات العالمية الكبرى، وقد تم تأسيسها في الشمال الشرقي من الهند على أسس تعاليم (سيداهارثا جوثاما) والمعروف باسم بوذا أو المستنير.
بدأت البوذية كحركة رهبانية ضمن التقاليد البرهمية الهندوسية المسيطرة في تلك الأيام، وسرعان ما اتخذت البوذية اتجاهاً مميزاً خاصاً بها. فالبوذا لم يرفض قضايا هامة في الفلسفة الهندوسية فحسب، ولكنه أيضاً تحدى سلطة الرهبانيات، وأنكر أصالة النصوص الفيدية، وكذلك رفض طقوس التضحيات المبنية عليها، وفوق ذلك كله فتح حركته لأعضاء كل الطبقات منكراً أن القيمة الروحية للشخص نابعة كلياً من ميلاده.
وتنقسم البوذية اليوم إلى فرعين رئيسيين يعرفان بـ (بوذية الثيرافادا) أو طريق الأسلاف و(بوذية المهايانا) أو العربة العظيمة. ويشير أتباع المهايانا إلى أتباع الثيرافادا باللقب المهين (هينايانا) أو العربة الأصغر. وهناك أيضا فرق بوذية أخرى .
ويقدر عدد البوذيين حول العالم بين المائة وخمسين إلى الثلاثمائة مليون نسمة، ويرجع السبب في هذا التفاوت الكبير بين التقديرين، إلى حقيقة أن الارتباطات الدينية في آسيا لدى الفرد الواحد، ارتباطات متعددة، كما أنه من الصعوبة بمكان تقدير التأثير البوذي في دول شيوعية كالصين. وتنتشر البوذية إضافة إلى الهند في سيريلانكا وتايلند وكمبوديا وميانمار (بورما سابقاً) ولاوس والتي تغلب فيها كلها بوذية الثيرافادا. أما بوذية المهايانا فإن معظم أتباعها يقطنون الصين واليابان وتايوان والتبت والنيبال ومنغوليا وكوريا وفيتنام إضافة إلى أقلية في الهند.
بوذا(سيداهارثا جوتاما):
ولد في لومبيني قرب الحدود الهندية النيبالية الحالية، وكان إبناً لملك مملكة صغيرة. ووفقاً للأسطورة لوحظت عليه في طفولته علامات أنبأت أنه سيكون شخصاً عظيما؛ً كأن يكون حكيماً أو ملكاً لإمبراطورية واسعة.
نشأ الأمير الصغير في عزلة فخمة، فلما بلغ التاسعة والعشرين، أدرك أن حياته فارغة إلى درجة كبيرة. فقطع علائقه الأرضية وأنطلق ينشد سلام المعرفة طالباً التحرر من ربقة التناسخ المتكرر الذي تنبئ به الديانة الهندوسية. وخلال السنوات اللاحقة جرب ممارسة اليوجا وكرس نفسه لرهبنة متطرفة.
ولكنه تخلى في النهاية عن هذا النهج معتبراً إياه نهجاً غير مثمر، وبدلاً من ذلك اتخذ طريقاً وسطاً بين الحياة العادية وإنكار الذات. وبينما كان متخذاً مجلسه المعتاد وهو يتأمل تحت شجرة (بو)، أخذ يعاني تجارب التعالي الروحي واحدة إثر أخرى، حيث أحس بانتقاله إلى مستويات أعلى من الوعي الفائق حتى بلغ ما يسمى في البوذية بحالة التنوير وهي الحالة التي كان ينشدها. وأيقن أنه قد تمكن من المعرفة الدينية المطلقة وبعدها خاض بوذا صراعاً داخلياً نفسياً تطهريا حاداً. وأخذ يبشر متنقلاً من مكان إلى آخر، مكوناً ما يشبه هيئة من الكهنة، وقام بتنظيمهم في رهبانيات محلية تسمى (سانغها) وقضى بقية عمره في ذلك.
تعاليم بوذا:
كان بوذا معلماً شفهياً لم يترك وراءه أية كتابات. ولكن تعاليمه دونت فيما بعد من قبل أتباعه.
- الحقائق النبيلة الاربعة:
في قلب تجربة التنوير البوذية تكمن حقائق أربعة :
الأولى هي: إن الحياة معاناة للألم. وهذه الحقيقة أوسع من مجرد ملاحظة حضور الألم والمعاناة في الوجود ولكنها تعني أن الوجود الإنساني بطبيعته الأصلية وجود مؤلم من لحظة الولادة وحتى لحظة الموت، حتى أن الموت ذاته لا يجلب الراحة، ذلك أن البوذية تقبل فكرة تناسخ الأرواح الهندوسية حيث يقود الموت إلى ميلاد جديد.
والثانية تقول: إن المعاناة ناشئة عن الجهل بطبيعة الحقيقة والجهل أن الرغبة والتعلق والتمسك هي نتائج تلك الجهالة الأولى.
أما الحقيقة الثالثة فتقول: إن المعاناة يمكن إنهاؤها بالتغلب على الجهل والتعلق.
ثم تأتي الحقيقة الرابعة لتقول: إن الطريق إلى قمع المعاناة وإنهائها يتكون من ثمانية دروب نبيلة وهي: وجهة النظر الصحيحة، والنية الصالحة، والقول الحسن، والفعل الحسن، والكسب الطيب، والمجهود الصائب، والفكر الصائب العادل، والتأمل الصحيح. وهذه الثمانية تصنف في ثلاثة أقسام رئيسية تشكل حجر الزاوية في الإيمان البوذي، وهي: الخلود، والحكمة، والتركيز أو الوعي الفائق (سمادهي).
الأناتمان:
تحلل البوذية الوجود الإنساني إلى خمسة حزم تسمى (سكانداهات) مفردها سكانداها. وهذه الحزم هي: الجسد المادي، والشعور، والفهم، ورصيد الشخص من الحسنات أو السيئات (كارما)، والوعي. وتقول أن الشخص ليس إلا تركيبة مؤقتة من هذه الحزم المعرضة للتغير الدائم، فلا أحد يبقى على حال واحدة ولو للحظتين متتابعتين. وتنكر البوذية إمكانية اتصاف هذه الحزم مفردة أو مجتمعة بالثبات والديمومة. وترى أن من الخطأ اعتبار أن يكون للنفس (الأتمان) ذات الوجود المستقل وجود أبدي خارج العناصر المكونة للفرد. وقد تمسك بوذا بأن ذاتا من هذا النوع تؤدي إلى النزعة الفردية وإلى الرغبة ومن ثم إلى الألم، ولذلك فقد علم اتباعه صيغة اللاذاتية (أن أتمان) التي تعني إنكار ثبات النفس وديمومتها. وقد شعر بوذا أن الوجود كله يتميز بالعلامات الثلاث (للاذات) وهي: (آن أتمان)، ثم (أنيتيا) وتعني عدم الثبات، و(دوكها) وتعني المعاناة. وهذه التعاليم الخاصة بالـ(أن أتمان) حتمت على بوذا إعادة تفسير الفكرة الهندية للولادة المتكررة في ظاهرة الوجود الدائري المعروفة باسم (آسمرا) أو التناسخ.
وفيما يتعلق بهذا الأمر علم بوذا أتباعه تعاليم الـ(بارتيتيا سموتبادا) أو النظام المستقل. فسلاسل العلية الإثني عشر تظهر كيف أن الجهل في حياة سابقة يخلق نزوعاً إلى تولد مزيج من العناصر. وهذا بدوره يدفع العقل والحواس إلى العمل، فينتج عنها الإحساس الذي يقود إلى التمسك والتعلق بالوجود، وهذه الحالة تطلق عملية تكرر الولادة في الوجود حيث تتكرر دورة الولادة فالشيخوخة فالموت. وخلال هذه العملية من العلل والنتائج تنشأ علاقة بين حياة راهنة وأخرى تالية، والنتيجة مجرىً مستمر من الوجود المتجدد بدلاً من وجود ثابت ينتقل من حياة إلى أخرى، وهو المبدأ الذي يرقى في الحقيقة إلى الاعتقاد بإعادة الولادة بدون عملية التناسخ الفعلية التي تتضمن انتقال النفس ذاتها إلى جسد مولود جديد.
وهذا فارق جوهري بين البوذية والهندوسية، إذ أن الهندوسية تقول في تعاليمها ان الخلق يتفاوتون طبقياً لأنهم خلقوا من أجزاء مختلفة من جسد براهما ولذلك فإنها تفترض ضمنا أن طبيعة الشخص حالة دائمة وثابتة لا يمكن أن يتخلص منها الشخص بالموت والعودة إلى الحياة بالتناسخ. إذ أن النفس عند الهندوس جوهر ثابت يحتوي حقيقة الشخص، بينما هي كما رأينا أعلاه عنصر متغير وغير ثابت ينتهي بإنتهاء الحياة عند البوذية. أما الولادة المتجددة عند البوذيين فإنها من اثر الكارما التي تؤدي إلى التعلق بالوجود وتوجد علائق بين الحياة الحالية للفرد وحياته التالية، فالبوذية تقول أن كل ولادة جديدة هي فرصة للتطهر من الكارما بينما تربط الهندوسية عملية التطهر من الكارما بممارسة الشعائر وتقديم القرابين والتعرض لدعوات ورضى الكاهن البرهمي.
الـكارما:
الكارما تتضمن أفعال الناس ونتائجها الأخلاقية. فأفعال الناس تقودهم إلى الولادة المتجددة، حيث يثاب العمل الطيب ويعاقب على أفعال الشر. وبذلك تقرر البوذية أنه لا توجد في الدنيا سعادة أو معاناة غير مستحقة. وأن تفاوت أحوال البشر تجسيد للعدل الكوني. ومن الواضح هنا أن البوذية تقبل جزئياً بالتحيز الطبقي للديانة الهندوسية عندما تعتبر أن ولادة الإنسان في طبقته المعينة جزاء لأفعال ارتكبها في حياته السابقة، فإن كانت أفعاله خيرة ولد في طبقة راقية وإن كانت أفعاله شريرة ولد في طبقةٍ دنيا كطبقة المنبوذين. وربما ولد في إهاب أفعى أو حشرة سامة أو حيوان من حيوانات الغابة أو طير من طيور السماء. ولهذا يمكن اعتبار كل من الهندوسية والبوذية بحق، عقائد محافظة تقول: أن كل شىء هو قي مكانه اللائق به والذي يستحقه. فليس في الإمكان أبدع مما كان.
والعملية الكارمية تعمل من خلال نوع من القانون الأخلاقي الطبيعي بدلاً من العمل عبر نظام قائم على العدل الإلهي أو الإرادة الإلهية.
وعلى الرغم من عدم إنكار البوذية للوجود الإلهي، فإنها تنكر أي دور خاص للإله أو الآلهة. وتقول البوذية بأن حياة الآلهة طويلة وسارة ولكنها أيضاً تعاني من المشكلة التي تعاني منها المخلوقات الأخرى حيث أنها معرضة كذلك للموت والولادة المتجددة في مستويات وجودية أدنى. فالآلهة في البوذية ليست خالقة للكون وليست لها سيطرة على مصير البشر، وتنكر البوذية لذلك وجود أية قيمة للصلوات أو القرابين المكرسة للآلهة. ومن بين النماذج الخاضعة لإعادة الولادة المتكررة فإن الوجود الإنساني هو الأفضل، ذلك أن الآلهة منغمسون في مسراتهم إلى درجة فقدان الرؤية لأهمية الخلاص. ولذلك فإن التنوير ليس متيسراً إلا للبشر كما يزعمون.
النيرفانا:
إن الهدف النهائي للطريقة البوذية هو التخلص من دورة الوجود الظرفي بما تحمله من ميراث المعاناة. ولتحقيق هذا الهدف لابد من الوصول إلى النيرفانا، وهي حالة من التنوير تخمد فيها نيران الطمع والحقد والجهل. وحتى لا نخلط بين الذوبان الكامل وبين حالة النيرفانا، تصف النيرفانا بأنها حالة من الوعي الفائق لا يمكن وصفها وتعريفها بالكلام. فالشخص المتنور الذي بلغ حالة النيرفانا يظل على قيد الحياة ويقوم بالتخلص من كل الكارما المتبقي عليه والخاص به حتى يصل إلى درجة النيرفانا النهائية (باري نيرفانا) لحظة وفاته.
ونظرياً فإن الوصول إلى النيرفانا متاح لاي شخص، وإن كانت لا تعتبر هدفاً معقولاً قابلاً للتحقيق إلا لمن كان عضواً في أخوية رهبانية بوذية. وفي بوذية الـ(ثيرافادا) يدعى الشخص الذي وصل إلى حالة التنوير عن طريق اتباع الطرق الثمانية بالـ(أرهارت) أو الشخص ذا القيمة، وتلك مرتبة من مراتب القداسة ينالها الشخص بمجهوده وعمله.
أما أولئك الذين لا يتمكنون من مواصلة العمل على بلوغ الهدف النهائي فإنهم، يختارون نوعاً من الهدف المتوسط يتعلق بالتطلع إلى ولادة أفضل عن طريق تحسين الكارما الخاصة. ويسعى إلى هذا الهدف الأدنى عادةً البوذي العادي، على أمل أن تقوده إلى حياة تمكنه من تحقيق التنوير النهائي وبالتالي الوصول إلى مرتبة السانغها.
والأخلاق التي تؤدي إلى النيرفانا هي أخلاق انعزالية وموجهة إلى داخل الفرد. وتتضمن تنمية مكارم الأخلاق التي تعرف بـ(قصور براهما). - وهنا يتضح الارتباط الوثيق والأصل الهندوسي الواضح للبوذية -.
وقصور براهما هي: المحبة، واللطف، والإخلاص، والمرح المتعاطف، والتحكم بالعاطفة. أما الأخلاق التي تقود إلى ولادة أفضل فإنها تتمحور حول قيام الفرد بواجباته الاجتماعية. وهي تتضمن الصدقة ومساعدة القديسين من السانغها إضافة إلى الالتزام بالمبادئ الأساسية للأخلاق البوذية. وهذه المبادئ الخمسة تحرم القتل، والسرقة، والبذاءة في الحديث والحديث الضار عموماً، والسلوك الجنسي الخاطئ، واستعمال المسكرات. وبالالتزام بهذه المبادئ فإن جذور الشر الثلاثة الشهوة والحقد والتعصب يمكن التغلب عليها.
الدامابادا:
الدامابادا هو مجموعة من 423 من المقولات أو التعاليم البوذية الهادفة إلى توفير إرشاد أخلاقي. والأقوال الشعرية والحكيمة المركزة للديمابادا والتي يمكن ترجمتها بعبارة (طريق الحقيقة) منسوبة إلى بوذا، مؤسس البوذية في الهند في القرن السادس قبل الميلاد. وهذه الكتابات جزء من الكتاب المقدس في البوذية أو الـ(سوترا بيتاكا).
نص من الـدامابادا:
العقل متردد وقلق، وصعب القياد. ولكن العاقل يقوم عقله كما يقوم الصانع الماهر قوام السهم.
وكالسمكة التي ألقيت على اليابسة بعد أن انتزعت من موطنها في الماء، يجهد العقل ويكافح للتحرر من قبضة الموت.
إن العقل متقلب لا يتصف بالثبات، ولا يسهل لجمه ولكن في السيطرة على العقل خير كثير. والعقل الذي تحكم السيطرة عليه مصدر متعة عظيمة.
العقل غامض ومن طبيعة لطيفة، إنه متقلب لا يتصف بالثبات، ويتبع الخيالات التي يحبها ويرغب فيها؛ ولكن العاقل يحرس عقله جيداً. لأن العقل المحروس جيداً مصدر متعة عظيمة.
أسرار الوعي خفية، والعقل كائن شبحي لطيف يطير وحده بعيداً. وأولئك الذين يتمكنون من وضع عقولهم في حالة من التناغم يتحررون من قبضة الموت.
ذو العقل المضطرب، الذي لا يعرف الطريق إلى الحقيقة والذي يظل إيمانه.