كنا نتمنى -كيمنيين- في ظل الربيع العربي أن تغير الأحزاب القديمة استراتيجيتها ومناهج فكرها وأسلوب تعاملها مع متغيرات الوضع العربي في ظل ثورات الشعوب، ومحاولتها كسر الأغلال والقيود التي أعاقت مسيرتها وحريتها، وكبلت طاقاتها وإمكاناتها، وحولتها إلى قطيع من الأغنام والعبيد تصفق لذابحيها ومدمري حياتها، وناهبي ثرواتها، ومفسدي أخلاقها، وفارضي تبعيتها لأعدائها. فلم يكن لها من الأمر شيء، والزعيم والقائد الملهم المعصوم من الخطأ هو الذي يتحدث باسمها ويعقد الصفقات نيابة عنها، لأنها شعوبٌ جاهلة قاصرة تحتاج إلى من يرعاها، ويقوم على شأنها، كطفل متعلق بوالديه لا يعرف أين مصلحته غير ما يأمر به أبوه.
هل بهذه العقلية ستبنى الأوطان؟! وهل بهذه العقلية ستطرح حلول الواقع الأليم الذي تعيشه أمتنا؟! هل بإرهاب واتهام المخالف لما تذهب إليه تلك الزعامات الاستبدادية تُحل أزمات البلاد؟! وهل بالإصرار على التبعية للقوى الأجنبية سيتم حلّ أوضاع المجتمع؟!
إن ما يحدث في مؤتمر الحوار الوطني من بعض هذه الأحزاب التي تعيش في أحلام الماضي، وتتمنى عودته لتمارس من جديد أساليبها ومناهجها الضالة الظالمة الملغية للآخر، خاصة الآخر الإسلامي الذي يصر على انتماء الأمة للإسلام حقيقة وواقعاً، لا مجرد ألفاظ جوفاء لا قيمة لها من الرصيد الواقعي سوى مواد دستورية ليست أكثر من سواد على بياض، لا ينبئ عن تراجع عن الأخطاء الماضية، ولا تصحيح في منهجية التفكير والمسار.
فهي اليوم لا ترتضي حتى بقاء الإسلام حتى في تلك الألفاظ! بل بعضها يطالب بكل صراحة وصلف بأن تكون مواثيق الأمم المتحدة والاتفاقيات التي تعقد فوق الدستور والشريعة الإسلامية، من دون أيِّ اعتبار لما نهى الله عنه من طاعة أهل الكتاب والكفار، الذين يمثلون اليوم دول الغرب والشرق المسيطرين على زمام الأمور في الأمم المتحدة ومجلس التخويف الذي يسمونه زوراً وبهتاناً مجلس الأمن، ويفرضون أجندتهم والسير وراء مصالحهم على شعوب العالم الضعيفة. لقد قال تعالى محذراً من هذه الطاعة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ))، آل عمران: 100. وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ؛ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ))، آل عمران: 149- 150. كيف ستبني هذه الأحزاب مستقبل اليمن المشرق وهي لم تستفد من أخطائها وجرائرها في الماضي القريب؟! ولم تقم بمراجعة ذاتية حقيقية تغير به مناهجها وسلوكها التي أودت بالوطن إلى الحاضر السحيق المرشح بالانفجار في أيِّ لحظة؟!
كيف ستبني هذا المستقبل وهي ما زالت تعيش واقع المحاصصة والتقاسم للغنائم والمكاسب والمناصب حتى ولو حساب وحدة وأمن وهوية اليمن أرضا وشعبا؟! كيف ستبني هذا المستقبل وهي ترفع شعارات جوفاء لا رصيد لها في واقع أحزابهم، ولا واقع حكمهم حين يحكمون، ولا حواراتهم حين يحاورون، بل تمارس إرهابياَ فكرياً خطيراً، ضد كل من يخالفهم وجهات النظر؟!
إنها إعادة لذات أدوات الإرهاب أمام كل ناصح ومصلح، فها هم يستعينون بأدوات القمع القديمة "جهاز الأمن"، ويكيلون سيلاً من الاتهامات الكاذبة، والتحريض المغرض عبر وسائل إعلامهم، ملوحين برفع دعاوى قضائية في المحاكم ضد خطاب إسلامي معتدل، ينادي بالحفاظ على الهوية بعيدا عن أي حسابات سياسية وحزبية. إن مثل هذا التعامل وهذه الأساليب توحي لكل مراقب منصف عدم الصدق في التحاور، والاستعداد لسماع وجهة نظر الآخر، فضلاً عن الأخذ بها أو الاستفادة منها. كيف ستبني هذه الأحزاب والقوى هذا المستقبل وهي تعرض هوية الأمة، وأوحدية الشريعة الإسلامية في التشريع للخطر؟! إما بجعلها مصدرا رئيساً للتشريع يمكن أن تزاحمه أو تتقدم عليه مصادر أخرى؛ وإما بتفريغها من حقائقها عبر تمرير ما في المواثيق والاتفاقات والمعاهدات الدولية من انحرافات كبديل عنها.
وأقرب مثال لذلك النص على المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، دون اعتبار لطبيعة كل منهما الجسمية والعقلية والنفسية والفطرية، وأن كلاً منهما خلقه الله على هيئة تتناسب مع الأدوار التي يقوم بها في الحياة؛ فيريدون إلغاء الفوارق بينهما طاعة للشواذ والملحدين، ممن يبنون فلسفتهم على أساس الصراع بين الذكورة والأنوثة المبني على أساس الصراع الطبقي في الفلسفة الماركسية التي دمرت الحياة البشرية، والفطرة الإنسانية، والكرامة البشرية، فسقطت سقوطاً مروعاً في مهدها وخلال سبعين عاما؛ مما يدل على سقوطها، وشدة باطلها الذي يتعارض مع الفطرة الإنسانية، فلم تستطع الصمود. فإذا ببعضٍ من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا مخمورين بهذه النظريات البالية والساقطة، ويريدون أن يفرضوا علينا تشريعات ملزمة على أساسها.
ومن نحو فصل الدين عن السياسة بشن حملة شعواء ومحاولة فرض مواد دستورية لفصل توجيه الدين للسياسة؛ طاعة مرة أخرى لليهود والنصارى الذين فصلوا دينهم عن سياستهم؛ وذلك لطبيعة دينهم المحرف والقاصر عن إدارة شئون الحياة، ولتحوُّل قسسهم وحكامهم إلى آلهة تعطي العصمة لقراراتهم، وأنها فوق النقد والتخطئة، وتحوُّل شعوبهم إلى قطاع من العبيد والأغنام يطلبون صك الغفران من ساساتهم وقسسهم. وللأسف إن هذه العقلية الاستبدادية المدعية للعصمة هي التي حُكمت بها الشعوب الإسلامية، وباسم ماذا؟!
باسم الديمقراطية، والدولة المدنية، والرأي والرأي الآخر، والحرية المطلقة، والتطور والتقدم ومواكبة العصر، ورفض الرجوع لإيجابيات الماضي تحت ذريعة التخلف والظلامية. فماذا كان؟ لقد أصبحنا أسوأ الأمم تخلفاً وتبعية واستعباداً وتشرذماً وتفككاً، يكيد بعضنا لبعض، ويقتل بعضنا بعضاً، بصورة تعيد للأذهان الصراعات القبلية في الصحراء العربية قبل مجيء الإسلام، فليس لنا من الحضارة نصيب، ولا من التقدم كفل، ولا من العزة واستقلالية الإرادة شأن.
فهل هذا الذي ترسمه الأحزاب لمستقبل اليمن؟! إن على هذه الأحزاب أن تقوم بمراجعة ذاتية حقيقية لماضيها واستلهام الدروس والعبر منه، وتجاوز سلبياته وعدم الإصرار على أخطائه، وعلى رأس تلك الأخطاء التخلص من أيِّ تبعية أجنبية سياسياّ أو قانونياً أو فكرياً، وأن تكون هذه المراجعة مراجعة فعلية تتغير بها المناهج والسلوكيات، وليس مجرد شعار ترفعه انحناء أمام عاصفة ما! فإذا ما وجدت فرصتها المناسبة رجعت لما كانت عليه! وإن مما يجب أن تقوم به العودة إلى ذاتها وتراثها الإسلامي، وإلى هوية الأمة الحقيقية المتمثلة في كتاب ربنا وسنة نبينا، فتستلهم منهما طريق النجاة، والصعود بالأمة إلى أفق الحياة الآمنة المستقرة المتطورة المتقدمة، والحضارة النظيفة العادلة.
*نشوان نيوز: