استراتيجية اسقاط الانظمة العربية فيما سمي بالربيع العربي اشبهت لعبة البيسبول الامريكية، ثلاثة اخطاء وتجد نفسك خارج اللعبة، وقد كان اسقاط النظامين في تونس ومصر سهلا لان الجيشين كانا مخترقين اميركيا عبر المناورات المشتركة على مدى سنوات، فما ان صدرت الاشارة لقيادتي الجيشين بالتخلي عن النظام حتى سقط كل منهما بسهولة. اما في ليبيا وسوريا فقد كان الجيشان محصنين من الاختراق فاستعصيا حتى اضطر الناتو الى التدخل العسكري الجوي لاسقاط النظام الليبي وهو ما كان يدبر للنظام في سوريا ايضا.
الخطأ الاول المطلوب هو استخدام القوة ضد ما يقال انه تظاهرات سلمية وهي تظاهرات يقوم فيها طرف (غير مشمول بالبروتوكول*)، كما وصفه تقرير بعثة مراقبي الجامعة العربية الى سوريا، باطلاق النارعلى المتظاهرين و على قوات الامن لاستدرار رد عنيف من قوات الامن. وهذا الطرف الذي يتضمن قناصة محترفين كان مسؤلا عن قتل عدد كبير من المتظاهرين في مصر وتونس، ولم يتم تحديده ومعرفته في التحقيقات والمحاكمات اللاحقة وحتى يومنا هذا على الرغم من سقوط النظامين.
المطلوب الثاني التظاهر بالوساطة من قبل الجامعة العربية، كما حدث في سوريا، واحراج النظام بتقارير كاذبة. ولكن البعثة كانت نزيهة وفعالة فاحرجت الجامعة بدلا من النظام.
المطلوب الثالث نقل القضية الى مجلس الامن لاستصدار قرار بالتدخل العسكري، على غرار ما حدث في ليبيا، ومن ثم اسقاط النظام بالقوة العسكرية للناتو والخليج، تلك هي الاستراتيجية الاولى المعتمدة، ولكن الفيتو المزدوج الروسي الصيني افشل الخطوة الثالثة ومعها الاستراتيجية كلها.
الخطة ب تنويع على الاستراتيجية:
مع هذا الفشل عمل الحلف الغربي الخليجي على اعتماد عمليات ارهابية عالية المستوى تقنيا لاغتيال الصف الاول من القيادات (تفجير مجموعة الامن القومي السورية)، واغراء مسؤولين رفيعين وديبلوماسيين بالانشقاق، الى جانب استقدام عشرات الالوف من الارهابيين من انحاء العالم بغرض اشاعة الدمار ومن ثم اصابة النظام بالعجز واسقاطه..
في مؤتمرات اصدقاء سوريا التي كانت تعقد بمعدل واحدة كل شهر، مظهرة طابع الالحاح والاستعجال على اسقاط النظام السوري، طالب وزير الخارجية القطري- في المؤتمر الذي عقد في تونس في فبراير 2012- بمساعدة المعارضة، من خلال "منحها أسلحة للدفاع"، وقد انسحب وزير الخارجية السعودي منه، اعتراضا على قصر بيان المؤتمر على المساعدات الإنسانية. كما طالب وزير الخارجية السعودي- في المؤتمر الذي عقد في اسطنبول في مارس 2012- بتسليح المعارضة، ورآه "واجبا". كما تحدث وزير الخارجية القطري- في اجتماع أصدقاء الشعب السوري في باريس في أبريل 2012- عن استعداد "الدول العربية لدعم الشعب السوري عسكريا للدفاع عن نفسه".
رصدت السعودية اربعة مليارات دولار منذ العام 2011 عبر سعد الحريري لتهريب الارهابيين والسلاح الى سوريا عبر لبنان، ورصدت قطر ثلاثة مليارات دولار لنفس الغرض عبر كل من الاردن وتركيا، ومبلغ مماثل جاء من دولة الامارات العربية ليساند الجهد القطري. وتكفل الاخوان والسلفيون الليبيون بضخ مخزون القذافي من السلاح اضافة الى آلاف المقاتلين الليبيين والتونسيين، كما كان لتركيا اسهام بارز في هذه الجهود.
حاولت اسرائيل تحييد فعالية نظام الدفاع الجوي السوري عبر الفيروس المعروف بإسم "اللهب" أو سارق المعلومات، نفس الفيروس استخدم ضد الفلسطينيين وخمسة دول عربية سعيا وراء أخذ معلومات عسكرية بالغة الأهمية.
يسجل أنه في الوقت الذي تحدثت فيه إسرائيل عن اختراقها الالكتروني "المعجزة"، نشرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية يوم الجمعة 25 مايو 2011 تصريحات أدلى بها لها في باريس رجل الأعمال السوري نوفل الدواليبي الذي أعلن عن تشكيل حكومة انتقالية سورية، حيث قال إن "سوريا الجديدة" ستجري مفاوضات سلام مع إسرائيل حول سلام عادل يستند إلى مبادرة السلام العربية. . وعلى إسرائيل أن تثبت رغبتها بسلام كهذا وتأييد القوى الديمقراطية في العالم العربي". والدواليبي هو ابن معروف الدواليبي الذي كان رئيسا لوزراء سوريا قبل سيطرة حزب البعث على السلطة. وهرب من سوريا في أوائل الستينات وأصبح مستشارا لعدد من الساسة في الخليج العربي.
وأكد رجل الأعمال السوري أن "أهداف" هذه "الحكومة الانتقالية" تتمثل في تسليح المقاتلين والعمل على "تدخل عسكري دولي مباشر" وضمان "عودة الأمن والاستقرار إلى سوريا". وقال انه سيعلن عن اسماء الأعضاء الـ35 في الحكومة الذين أكد أنهم سوريون من الداخل بين عسكريين ومدنيين في وقت قريب.
في وقت متقارب كذلك وحسب وكالة أنباء "يو بي اي" إعتبر الرئيس الأسبق للموساد الإسرائيلي أفراييم هليفي في مقال نشره في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أنه في حال الموافقة والنجاح في تطبيق خطة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان لحل الأزمة السورية، وبقي الرئيس بشار الأسد في منصبه، فإن إسرائيل ستمنى بأكبر هزيمة استراتيجية منذ قيامها.
وعبر هليفي عن توجسه من عدم وضوح الموقف الأميركي من الخطة، ولفت إلى أن المعلومات التي تسربت عن لقاءات أجرتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في السعودية كانت قليلة للغاية.
خلال شهر أكتوبر 2011 وحسب تقارير نشرتها صحيفة "يديعوت احرونوت" الإسرائيلية فإن القيادة السورية ورغم التفوق العسكري الإسرائيلي، قررت فيما يشبه العمل الانتحاري الرد على سقوط أول قذيفة "للناتو" على دمشق بوابل من الصواريخ السورية على تل ابيب وأهم المناطق الأخرى في إسرائيل. وذكرت الصحيفة أن حزب الله اللبناني هو الأخر لن يتردد في مشاركة منظومات الصواريخ السورية في قصف إسرائيل لأنه بدوره يدرك أنه بعد إنهيار النظام السوري سيأتي دور تصفيته.
وألمحت معطيات الصحيفة العبرية إلى أن الأسد نقل رسالة بهذا المعنى لوزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو، الذي نقل لدمشق إنذارات أميركية، تحذر من احتمالات تعرض سوريا لهجوم عسكري من قبل "الناتو"، إذا واصل الأسد إصراره على البقاء في الحكم، وبحسب الصحيفة الإسرائيلية ابلغ الأسد الوزير التركي بأنه سيدعو حزب الله هو الأخر وربما حماس في قطاع غزة إلى تصويب صواريخهما باتجاه مدينة تل أبيب حال تعرض سوريا لعمل مسلح. ويبدو ان التهديد آتى أكله وكبح الاندفاع نحو تدخل سريع.
غير أن ملاحظين يشيرون إلى أنه خلال شهر مايو 2012 أعلنت مصادر في واشنطن أن خطط التدخل العسكري الأميركي في سوريا اكتملت. وكانت وكالة الأنباء الألمانية "د ب أ" قد نقلت في 8 مارس من نفس السنة عن الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية لمجلس الشيوخ تأكيده إن وزارة الدفاع تعد خيارات عسكرية ضد سوريا بناء على طلب الرئيس باراك أوباما. وكان ديمبسي يتحدث أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ على خلفية دعوات من جانب أعضاء في مجلس الشيوخ بأن يتدخل الجيش الأميركي في سوريا.
استنساخ تكتيكات حروب العصابات السابقة:
عمد الارهابيون الى اساليب الخلد الفيتنامي بالتوسع في حفر الانفاق لربط الاحياء في المدن وربط الاحياء بالبساتين، وعمدوا الى عمليات انتحارية راعبة يستخدم في بعضها اطنان من المتفجرات، كما توسعوا في تهجير السكان نحو دول الجوار للكسب الاعلامي وكسب مزيد من الحرية في التنقل بين الاحياء واستدعاء القصف الحكومي الواسع في غياب المدنيين ومن ثم استخدامه اعلاميا.
واتبع الارهابيون الاسلوب الماوي بالاستيلاء على الارياف لاسقاط المدن. ومع تخوف النظام من الانتشار الواسع لقواته، ما يقلل من فاعليتها، نجح الارهابيون في السيطرة على بعض المناطق وتمركزوا فيها كمناطق محررة ياملون ان تحظى يوما ما بحماية دولية عبر حظرجوي.
تكتيك البعوض:
انتشرت عمليات الارهابيين على كامل التراب السوري وهي عمليات كقرص البعوض وطنينه المزعج، ينصب اغلبها على استدعاء رد عنيف من الجيش السوري، مع التشويه الاعلامي الواسع النطاق، بغرض التغلب على المقاومة الدولية للتدخل العسكري الاجنبي، ولكن روسيا والصين القتا الفيتو مرة اخرى في وجه مشروعات التدخل لتوصلها الى طريق مسدود. بل ان الاتحاد الروسي قرر تحصين سوريا من التدخل الاجنبي عبر تزويدها بصواريخ متطوره اس 300 ارض / جو، وياخونت ارض/ بحر، واسكندر ارض/ ارض، ونقل جزء كبير من اسطوله البحري الى البحر الابيض المتوسط.
وكان ديمتري بيسكوف الناطق باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن أن الموقف الروسي حول سوريا "متوازن ومنطقي". وأضاف لوكالة "إنترفاكس" إن "موقف روسيا معروف جيدا وهو متوازن وثابت ومنطقي تماما" والقول إن "هذا الموقف سيتغير تحت ضغط أي كان، ليس صحيحاً". وأضاف أن "موقف روسيا لا يستند إلى انفعالات غير مناسبة في وضع بمثل هذا التعقيد".
الطرف الثالث:
عندما بدأت التظاهرات في سوريا في مارس 2011 انتشرت معها صور واخبار عن قنص يتعرض له المتظاهرون، وكانت السلطات السورية تتحدث عن طرف ثالث ومؤامرة، بينما كانت الجزيرة تتحدث عن شبيحة النظام. ولم تتضح الصورة الا من تقرير* البعثة العسكرية لمراقبي الجامعة العربية Dec 29, 2011 برئاسة الفريق أول ركن محمد أحمد الدابي والتي اوضح تقريرها الذي رفضته الجامعة العربية الامور ووضع النقاط على الحروف، فلم تلبث الجامعة العربية ان اكتشفت، عقب التقرير، ان رئيس البعثة العسكرية لمراقبي الجامعة العربية الفريق أول ركن محمد أحمد الدابي فى سوريا مطلوب للمحكمة الدولية.
التقرير الذي جاء في 83 بندا اظهر التجاوب الكبير للحكومة السورية مع البعثة سواء من حيث انهاء المظاهر المسلحة، والانسحاب من المناطق التي حددتها البعثة، واطلاق سراح حوالي 5000 معتقل، كما بين التقرير المبالغات الاعلامية الهادفة الى نشر الفتنة، والحملة الشرسة التي استهدفت البعثة بمجرد تشكيلها وحتى قبل ان تخطو خطوة واحدة وبأن افشالها كان مبيتا مسبقا. .. الخ. انظر التقرير في الانترنت*. وكان بوسع البعثة، لواستمرت في عملها، احلال السلم والهدوء تمهيدا لعملية سياسية حوارية تنهي الازمة. ولكن الدول التابعة للغرب كانت امامها اجندة مرسومة، وكان لا بد لها من انهاء عمل البعثة لتنفيذ الاجندة.ولعل احد اهم البنود في تقرير البعثة هو ذلك الذي يحمل الرقم 71 وجاء فيه:
71"- ثبت للبعثة وجود عنصر مسلح غير مخاطب بالبروتوكول، (بروتوكول انشاء البعثة) وهو لا شك تطور ظهر على الارض نتيجة الاستخدام المفرط للقوة من جانب القوات الحكومية قبل انتشارالبعثة عند التصدي للاحتجاجات التي طالبت بسقوط النظام. ويعتدي هذا العنصر في بعض القطاعات على القوى الامنية السورية وعلى المواطنين كرد فعل يواجه ايضا برد فعل حكومي عنيف، يدفع ثمنه المواطنون الابرياء ويؤدي في النهاية الى سقوط عدد من القتلى والجرحى." انتهى.
وقد اصبح هذا الاسلوب فيما بعد عماد اساليب الارهابيين في سوريا والذين يستدرون قذائف الجيش ثم يشهرون به في الاعلام، بقصد خلق راي عام دولي مؤيد للتدخل العسكري الاجنبي . ان اي باحث جاد عن الحقيقة سيقرأ تقرير البعثة * بكل عناية وتدقيق.
وصلت طلائع بعثة المراقبين العرب "67 مراقب عربي" إلى سوريا في ديسمبر عام 2011 بعد توقيع سوريا على المبادرة العربية وانهي عملها في 16 يناير عام 2012، ولكن ومباشرة بعد إعلان الرئيس السوري بشار الأسد قبوله بدخول بعثة المراقبين ، قال برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري المعارض، يوم 18 ديسمبر من تونس، إن «توقيع سوريا اتفاق الجامعة العربية كذبة، الهدف منها شراء الوقت وإثناء الجامعة عن اللجوء إلى الأمم المتحدة». وأضاف غليون بأن «المعارضة السورية تريد استخدام القوة ضد نظام الأسد حتى إن كان ذلك في نطاق محدود أو أن تقوم قوات دفاعية عربية بالرد». ووصف رئيس المجلس الوطني السوري المعارض مبادرة الجامعة العربية بإرسال مراقبين إلى سوريا بأنها تمنح النظام فرصة أخرى سيستغلها للتشبث بالسلطة. وحث غليون الجامعة العربية والأمم المتحدة على الدفاع عن السوريين بإقامة مناطق آمنة داخل سوريا. وبعدها توالت الانسحابات العربية، من الدول التي كانت ترى في البعثة مجرد خطوة في مخطط، يستهدف تدويل الازمة السورية بنقلها الى مجلس الامن لتكرار السيناريو الليبي، فانسحبت بأعذار شتى على النحو التالي:
22 يناير2012 المملكة العربية السعودية سحبت مراقبيها بسبب ما قالت انه استمرار القتل في المدن السورية.
24 يناير 2012 دول الخليج العربية تعلن انسحابها من بعثة المراقبين.
28 يناير 2012 الجامعة العربية تعلق بعثة المراقبة بسبب "استمرار القتل في المدن السورية".
الهامش
*تقرير رئيس بعثة مراقبي جامعة الدول العربية الى سورية
للفترة من 24/12/2011 الى 18/1/2012.