استبشرت الجماهير العربية بانتفاضات الربيع العربي، إلا أن هذه البشرى تحوَّلت إلى غمّ في الكثير من الدول العربية التي تحول ربيعها إلى فوضى عارمة، تدنَّت فيها الخدمات وغاب عنها الأمن والاستقرار، إذ سادت البندقية على الأجواء العربية، وافتقدت الجماهير الحكمة والمنطق والعقلانية، وأصبح (البلطجي) الزعيم المتوج، فيما توارى السياسي والمفكر إلى الخلف حتى استبدلت الجماهير مصطلح الربيع العربي بفوضى الربيع العربي، وهو ما نشهده الآن في مصر وليبيا وتونس واليمن.
ففي هذه الدول أصبحت قوة السلاح أقوى من لغة الحكمة والمنطق والسياسة الواقعية، وظهرت ممارسات وبدع، وأصبحت إحدى ركائز العمل السياسي والسلطوي في دول فوضى الربيع العربي بأن (ثوار البندقية) في هذه الدول ابتدعوا أساليب تحوَّلت إلى قوانين، وبعضها أدخلها إلى الدستور فأصبحت عملاً ملزماً يدمر كفاءات البلد.
قانون العزل السياسي إحدى الابتداعات الدخيلة على العمل السياسي، فهذا القانون لا يحرم ممن يبعدون عن العمل السياسي، بل أيضاً يفرض على الجماهير أن يعزلوا ويبعدوا من يرون فيهم الكفاءة والقدرة على العمل الوطني، كما أنه يعد كسراً للعدالة والمساواة اللتين هما إحدى أهم الأسباب التي أشعلت الانتفاضات الشعبية في دول الربيع العربي، وإذ كان معروفاً ومتوافقاً عليه أن يُبعَد من ارتكبوا جرائم بحق شعوبهم أو الذين تلطخت أيديهم بدماء الشعوب، وأن يتم القبض على المفسدين والفاسدين الذين أثروا على حساب الشعب بعد أن يقدموا إلى محاكمات عادلة، وهو ما قامت به العديد من الدول سابقاً ومنها دول الكتلة الاشتراكية التي أزاحت شعوبُها أنظمتَها الاستبدادية، وليس أن تقوم مجموعات مسلحة وبقوة السلاح وتفرض قانوناً تعزل أصحاب الكفاءات لأن بعضهم عمل مع النظام السابق، حتى وإن كان ذلك المرء قد ثار وانشق على ذلك النظام، كحالة السياسي الليبي محمد المقريف الذي انشق على نظام القذافي منذ أكثر من 30 عاماً.
حالة لا نجدها حتى عند العرب سوى في دول فوضى الربيع العربي التي عجزت عن الاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا التي اختارت التسامح والصلح بدلاً من الانتقام وتصفية الحسابات التي تفقد الشعوب كفاءات وقدرات تحتاجها في مرحلة التغيير.
- صحيفة الجزيرة السعودية:
jaser@al-jazirah.com.sa