تابعت بـ(سعادة) بالغة لا تخلو من بعض المخاوف والقلق.. جلسات مؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل - عبر الفضائيات اليمنية المتعددة - لبحث حاضر ومستقبل (اليمن)، والماهية التي سيكون عليها دستوره (الثاني) الجديد؟! والتي بدأت في الثامن عشر من شهر مارس الماضي .. بجلسة (افتتاحية) طويلة امتدت لعشرة أيام، تحدثت خلالها قيادات الأحزاب السياسية والنقابات والمحافظات والجمعيات النسائية والشبابية ومؤسسات المجتمع المدني جميعها بكل حرية وشفافية
.. إلى جانب الموتورين والمأجورين من أصحاب الأجندات الانعزالية المخجلة، الذين تمتعوا بذات الحقوق.. في ظل حراسة أمنية مشددة من ستين ألف جندي لضمان سلامة الخمسمائة والخمسة والستين عضواً، الذين تم اختيارهم عبر الأمانة العامة لمؤتمر الحوار الوطني برئاسة الدكتور عبدالكريم الإرياني.. ليشكلوا جمعيته العمومية عند التصويت على مخرجاته في نهاية الستة أشهر التي حددتها الأمانة العامة للمؤتمر بالتشاور مع القيادة اليمنية كـ(سقف) زمني نهائي للحوار، وهو ما يؤخذ - ربما - على أمانة المؤتمر والرئيس عبد ربه.. ولا يحسب لهما من وجهة نظر مقابلة، لأن (الإطالة) في مدة انعقاد المؤتمر وإلى هذا الحد.. قد لا تكون مجلبة خير لـ(اليمن)، وللسواد الأعظم من اليمنيين المتعطشين للأمن والعدالة والتنمية في يمن واحد لا تشطير فيه، بقدر ما تكون بوابة زمنية واسعة - لا قدر الله - يتسلل من خلالها المفسدون والمتربصون إلى داخل قاعة المؤتمر وإلى أعضائه.. من سماسرة السياسة وتجارها.. من الذين باعوا ضمائرهم وعقولهم لـ(جيوبهم).. كأولئك الذين شهدهم اليمن خلال شهور الأزمة وهم يقومون بضرب محطات الكهرباء وأبراج الهاتف ومقار الوزارات، وتفجير أنابيب النفط.. في بلد يعاني اقتصاده الأمرين، ويعجز نفطه المحدود عن سد احتياجات مواطنيه وهي في أحسن حالاتها..؟!
***
على أي حال.. كان (المؤتمر).. وإن تأخر عن موعده من منتصف شهر نوفمبر الماضي إلى الثامن عشر من شهر مارس الماضي.. إنجازاً سياسياً باهراً بكل المقاييس. بـ(انعقاده)، وبـ(تركيبته) العددية التي هندسها رئيسه هادي وأمينه الإرياني بـ [112 عضواً من حزب المؤتمر، و85 عضواً من حراك الجنوب، و35 عضواً من الحوثيين، إلى جانب بقية الخمسمائة والخمسة والستين عضواً من الأحزاب السياسية الأخرى، ومؤسسات المجتمع المدني، والتنظيمات النسائية والشبابية]، يضاف إلى إنجازات الرئيس عبد ربه منصور هادي الساطعة - وربما غير المتوقعة - خلال الخمسة عشر شهراً الماضية من توليه رئاسة البلاد، والتي تمثل المرحلة الانتقالية الأولى من المبادرة الخليجية المزمَّنة، وقد أعان على نجاح (عقد) المؤتمر.. ذلك التواجد الحثيث لأصحاب المبادرة الخليجية عبر أمينها العام (الدكتور عبداللطيف الزياني) ومكتبه الدائم في صنعاء، وذلك الدعم السياسي الأممي المتواصل والمثمر لمندوب الأمين العام للأمم المتحدة - لمتابعة سير المبادرة الخليجية حتى ختامها في الثالث والعشرين من شهر فبراير من سنة 2014 - الدبلوماسي المغربي البارع: السيد جمال بن عمر.. بـ(ترغيبه) و(ترهيبه) للمتنطعين والرافضين لحضور (المؤتمر) إلا بشروطهم (البيزنطية!!)، وبإحضاره لـ(أعضاء مجلس الأمن الدولي) إلى صنعاء.. ولأول مرة في تاريخها وتاريخه في السابع والعشرين من شهر يناير الماضي لحسم موعد بدء المؤتمر، وحمل الممتنعين والمترددين إلى حضوره.. وإلا فإن (الأمم المتحدة) و(مجلس الأمن) لن يتساهلا (مع أي تدخل)، أو أي انحراف للعملية السياسية، وأن على من يحاولون ذلك أن يتوقفوا.. كما قال رئيس مجلس الأمن - لذلك الشهر - السير مارك برانت في مؤتمره الصحفي الأخير.. وهو يودع (صنعاء)، ليلتقي اليمنيون بأطيافهم السياسية الحزبية ونعراتهم القبلية وأطماعهم المادية.. في قاعة المؤتمر وقد أدركوا طوعاً وكرهاً.. أن لا بديل عن (الحوار) غير حرب أهلية كارثية.. لا تبقي ولا تذر!؟ قد تعيد اليمن برمته إلى (مشيخاته) الثلاث والعشرين في جنوبه.. وإلى (إمامته) الكهنوتية المركزية في شماله.. وهو ما لا يتفق ونضال وتضحيات ثورتي السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر..!
ليبدأ حفل الافتتاح الذي كان مهيباً وقوراً على مستوى اللحظة التاريخية وجلالها.. بكلمة لممثل المبادرة الخليجية وآليتها المزمَّنة (الدكتور عبداللطيف الزياني) الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي العربي، الذي خذلته طائرة قدومه من الرياض.. فتأخر لنصف ساعة ليلقي كلمته - بالنيابة عنه - أحد مستشاري مكتبه في صنعاء، ثم ليتلوه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة - السيد جمال بن عمر-.. الداعم الدولي لـ(المبادرة) وانتقال السلطة سلمياً إلى دولة مدنية حديثة، قوامها العدل والديمقراطية والمساواة والحكم الرشيد، والممول لمراحل المبادرة الثلاث (ثلاثة أشهر، فعام اول، وعام ثان) بالخبرات السياسية والتقنية بل وبـ(نفقات) مؤتمر الحوار الوطني هذا.. والتي قدرت بخمسة وعشرين مليون دولار، ليلقي الرئيس اليمني (عبد ربه منصور هادي) كلمته.. التي كانت بحق أعظم ما في اليوم الأول من أيام الافتتاح العشرة، فقد أشاد في بدايتها بـ(المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية).. وأنها (كانت خطوة جادة وحاسمة في دوران التغيير إلى الأمام في البلاد، رسمت خارطة طريق للخروج باليمن من أزمته المستفحلة إلى رحاب التوافق والتصالح والتسامح).. وهو يدعو أعضاء المؤتمر (إلى طي صفحة الماضي بكل تفاصيله، وفتح صفحة جديدة، والتخلص من موروثات الصراع، فضلاً عن ترك مكائد السياسة، وتجاوز تعقيدات الماضي والاستفادة من المساندة غير المسبوقة من قبل المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي لإنجاح أعمال مؤتمر الحوار).. دون أن ينسى (قضية الجنوب) والقلة من حملة سيوف الانفصال، الغادرون بـ (كفاح) الأمة ونضالها من أجل (وحدتها) التي تحققت بعرق ودموع ودماء أبناء الوطن الواحد في شماله وجنوبه.. وهو يدعوهم إلى (التوافق على رؤية عقلانية واقعية وطنية حول القضية الجنوبية تحديداً) لأنه (سيقود حتماً لصياغة عقد اجتماعي جديد من خلال دستور يكفل معالجة الاختلالات التي أدت إلى كل المحن التي مرت بها البلاد خلال الفترة الماضية)..!!
***
لقد تتابعت بعد ذلك كلمات رؤساء الأحزاب والنقابات والجمعيات النسائية والتكتلات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني.. وهي تندد في معظمها بأخطاء العهد السابق وفساده ومظالمه، دون أن أجد كلمة واحدة تتحدث عن اليمن ومستقبله وماهية دستوره الثاني الجديد.. فضلاً عن أن أجد كلمة منصفة في حق العهد السابق إن في التعليم الجامعي وانتشاره، أو في تطور المدن وعواصم محافظاتها الكبرى كصنعاء وعدن وتعز والحديدة.. وقد شاهد العالم على شاشات الفضائيات الصورة اللامعة التي ظهرت بها العاصمة الشتوية (عدن) خلال استضافتها لدورة كأس الخليج (20) في نوفمبر من عام 2010م.. وقد بدت عروساً على بحر العرب وخليج عدن، على أن المفارقات في جلسات الأيام العشر الافتتاحية.. كانت أكثر من أن تحصى.. لعل أولها اختيار (أحد الحوثيين) نائباً لرئيس المؤتمر.. وهو أمر يستلفت النظر في أن يتصدر حملة (الكلاشينكوف) - إن كان هو شخصياً أو جماعته - لإدارة - أو المساهمة - في إدارة حوار وطني لبحث مستقبل اليمن!! وقد كان يتوجب أن يكون نائب الرئيس - إن كان واحداً أو أكثر - محايداً لا حزبياً، فإن لم يكن ذلك ميسوراً.. فلا بأس من اختيار شخصية - أو شخصيات - حزبية من تلك الأحزاب التي لم تحمل سلاحاً ترفعه في وجه الدولة ودمارها، ولعل ثاني تلك المفارقات.. مقاطعة (حزب البعث) العربي الاشتراكي للمؤتمر.. وهو الحزب الذي يقوم على ثلاثية (الحرية والوحدة والاشتراكية) في مؤتمر يدعو من بين ما يدعو إليه (الوحدة) وترسيخها ودعمها، أما ثالث تلك المفارقات.. فقد كان في (إعلان) ناشطة حقوق الإنسان (السيدة توكل كرمان) الحاصلة على جائزة نوبل للسلام - من أجل دفاعها عن حقوق الإنسان - عن رفضها المشاركة في أعمال المؤتمر.. وهو أمر أثار ويثير أكثر من سؤال؟ فكيف لناشطة تحمل جائزة نوبل للسلام أن ترفض المشاركة في (حوار) ومناقشات سلمية في وطنها.. تهدف في نهاية المطاف لانتقال (السلطة) سلمياً إلى مؤسسات تشريعية ورئاسة شرعية منتخبة؟ فهل يعاب بعد هذا.. على من يشككون في حصول (بعضهم) على جائزة نوبل للسلام أو الأدب.. قولهم بأنه كان وما يزال مرتهناً لأسباب (سياسية) وليست (موضوعية)..!؟
ليبقى الأغرب في تلك المفارقات.. عندما أعلن (الحوثيون) و(الحراك) عن مطالبتهما (معاً) - في ختام جلسات افتتاح المؤتمر بـ(حق تقرير المصير)..؟! وهو تعبير سياسي تم تبنيه في مؤتمر السلام في (فرساي) بالقرب من باريس في أعقاب الحرب العالمية الأولى عبر مبادئ الرئيس ويدرو ويلسون الأحد عشر التي أقرها المؤتمر آنذاك.. لتمكين الشعوب المُسْتَعْمَرة من قِبل الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية من المطالبة بنيل (استقلالها) عن مستعمريها إن كانوا بريطانيين أو فرنسيين، ليصبح بعد ذلك مطلباً لكل الشعوب والحكومات المستعمرة من قِبل قوى خارجية.. وهو مطلب خدع الحوثيين - فيما يبدو بـ (ألفاظه) - بحكم خبرتهم السياسية المتواضعة أو المعدومة حقاًَ، إلا أنه يُعاب على (حراك الجنوب) تورطه في ذات المطلب أو مطب (تقرير المصير) هذا.. في دولة يرأسها رئيس (يمني جنوبي) هو الرئيس عبد ربه منصور هادي، وتدير حكومتها وزارة وحدة وطنية.. نصفها من الجنوبيين، ويرأسها رئيس وزراء جنوبي هو السيد محمد سالم باسندوه.
إن مطلب (حق تقرير المصير).. هو حق للدول المُسْتَعْمَرَة، كمطلب (الجلاء).. حق للدول المحتلة، ولم تكن اليمن مستعمرة ولا محتلة قبل أو بعد أزمتها السياسية الراهنة.. فلا يصح الخلط أو الاستفزاز ورفع مطالب لا دقة ولا حيطة فيها في (مؤتمر حوار وطني) يدعو لبناء دولة مدنية جديدة.. بـ (دستور) جديد يكفل الحقوق والحريات لكل اليمنيين.. بحد سواء!!
***
إن مؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل.. برجاله ونسائه، بشبابه وشاباته، بكفاءاته وخبراته، والذي استطاع الرئيس عبد ربه منصور هادي بذكاء ودهاء وبراعة أن يجمعهم في مكان واحد، وتحت سقف واحد، لبحث مستقبل يمنهم الواحد.. متغلباً على كل المعوقات والمحبطات.. يحتاج إلى (الحكمة اليمانية) القابعة في قلوب وعقول أعضائه تحت رماد المصالح والأهواء. تلك (الحكمة) التي تزن الأمور في النهاية.. بميزان مصالح الأمة ونضالها وتاريخها وطموحها، لا بميزان (الأفراد) وأهوائهم أو أطماعهم..! والتي أخرجت من قبل القيادات اليمنية في الثلاثين من نوفمبر من عام 2011م من خلف متاريسها ودشمها لتوقع على سلام التغيير وبناء (يمن الجميع). فـ(اليمن) العزيز على أبنائه وأمته العربية.. يستحق دولة كبرى في مستواه، وعلى قدر أحلامه وتطلعاته الكبيرة التي يعرفها جميع أبنائه.
وللحديث بقية..
- نقلا عن الجزيرة السعودية: