عندما تباطأ رئيس لجنة صياغة (الدستور اليمني) الجديد (الدكتور إسماعيل الوزير).. عن إنجازه خلال ثلاثة أو أربعة أشهر، وكان قد تسلم كامل مخرجات لجان الحوار الوطني اليمني الشامل (الثماني).. لصياغتها في بنود ومواد في شهر يناير ما قبل الماضي، وأخذت تمضي الشهور تلو الشهور على (اللجنة)..
..وهي ما بين رحلتها (الاستكشافية) لجمهورية ألمانيا الاتحادية الفيدرالية.. للاستهداء بـ(تجربتها) الوحدوية الفيدرالية، ثم عودتها.. فذهابها إلى (أبوظبي).. للعكوف على الصياغة النهائية لمواد الدستور الجديد - التي قيل إنها تتكون من أربعمائة وست وأربعين مادة - حتى بلغ ذلك التباطؤ تسعة أشهر.. ولما يتم تسليم (أمانة المؤتمر) الصيغة النهائية لهذا (الدستور)، الذي يبدو أن الدكتور الوزير أراده أن يكون على أعلى درجات (الأفلاطونية) أحكاماً.. دون أن يضع في حساباته أي احتمال من احتمالات النكوص أو التراجع عنه.. أو الاعتراض عليه..؟!
على الجانب المقابل.. لم يفعل رئيس الجمهورية ورئيس مؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل (عبدربه منصور هادي).. شيئاً، يستحث به (اللجنة) أو رئيسها الدكتور الوزير للانتهاء من تلك (الصياغة).. التي طال وقتها لـ(التصويت) عليها بداية من قبل الجمعية العمومية لمؤتمر الحوار الوطني الشامل.. تمهيداً لطرحها للاستفتاء عليها شعبياً من قبل المواطنين اليمنيين جميعاً، وقد ظن الرئيس هادي.. أنه في سعة من أمره، وأن الـ(565 عضواً) من مكونات الطيف السياسي اليمني.. الذين قبلوا بـ (المبادرة الخليجية) ووقع عليها - منوبوهم - في الرياض، وتبنتها الأمم المتحدة، واعتمدها مجلس الأمن.. كـ(أفضل) وسيلة لانتقال السلطة اليمنية سلمياً من عهد لعهد.. سيظلون على عهودهم التي التزموا بها عند قبولهم بـ(المبادرة) فـ(الدخول) في الحوار الوطني اليمني الشامل والالتزام بـ(مخرجاته)، وأن الحكمة اليمنية - وكما اعتقد الرئيس عبد ربه - التي قادتهم - سواء كانوا جنوبيين اشتراكيين أو إصلاحيين أو حوثيين أو ناصريين - للقبول بالحوار الوطني ومخرجاته.. ستظل على ما كانت عليه (رائدهم) في الخروج بالوطن اليمني من أزمته.. إلى بر الأمان والاستقرار والتنمية.. حتى ولو طال بهم الوقت بعض الشيء، لكن الرئيس عبد ربه وحتى رئيس لجنة صياغة الدستور الدكتور إسماعيل الوزير.. نسيا أن اليمنيين - في ظل ظروفهم الاقتصادية الصعبة - أقل تحملاً وأقل صبراً من غيرهم بصفة عامة.. أما إذا كان وراؤهم من يغويهم بـ(الذهب الإيراني) أو التركي.. فهم أسرع في النكوص والتراجع وتغيير جلودهم والعودة إلى أجندتهم.. خصوصاً أن (عسل) المبادرة الخليجية كان قد أخذ يتلاشى من أفواه جميع تلك المكونات اليمنية، و(الحوثيون).. في مقدمتهم..!!
* * *
ولذلك.. ربما فوجئ الرئيس عبد ربه كما فوجئ العالم.. وبعد تسعة أشهر من انتظار الانتهاء من صياغة الدستور - في سبتمبر الماضي - بـ(اجتياح) الحوثيين للعاصمة (صنعاء).. بداية تحت شعارات وطنية براقة: كـ(عودة) الدعم للمواد البترولية.. و(المطالبة) بتغيير حكومة الوحدة الوطنية (الفاسدة..!!)، وتطبيق مخرجات الحوار الوطني - التي لم يظهر دستورها -.. وانتهاء باقتحام وزارتي الدفاع والداخلية وبقية الوزارات بـ (القوة المسلحة)، والاستيلاء على ما بداخلها من موجودات وأموال.. فـ (الاستيلاء) على مفاصل العاصمة اليمنية (صنعاء) وسط فوضى من الرعب والخوف والقتل والدمار، حملت الرئيس عبد ربه.. على مداراتهم بـ(الاستجابة) لمطالبهم، التي أخذ سقفها يرتفع ساعة بعد ساعة.. ويوماً بعد أيام.. ليحملوا الرئيس عبد ربه تقية أو كرهاً على (التوقيع) على ما سمي بـ(اتفاق السلم والشراكة)، الذي أعطاهم - رغم الجرائم التي ارتكبوها في حق صنعاء وأهلها وفي حق الدولة اليمنية وهيبتها - ما لا يستحقون؟!.
وإذا كان الرئيس عبد ربه.. قد اعتقد أنه (اشترى) ساعتئذاك بـ(توقيعه) على اتفاق (السلم والشراكة) المضحك والهزيل (اللحظة) التاريخية الحرجة، وحمى (صنعاء) من عبث الحوثيين، خصوصاً أن انسحابهم منها.. هم وأسلحتهم وميليشياتهم وجبهة نصرتهم ومن سموهم بـ(اللجان الثورية).. كان يشكل (المقدمة) لذلك الاتفاق، فإن الحوثيين.. قد قرأوا السرعة التي تم بها توقيع الرئيس.. بأنه خوف منهم، واستسلام لهم أو تفويض لهم على بياض.. بأن يفعلوا ما يشاؤون!! إلا أنهم ظلوا خلال الأيام الأولى من التوقيع على هذا الاتفاق.. يرددون التزامهم بـ(مخرجات) الحوار الوطني الشامل، ولم يكن ذلك بأكثر من خدعة.. انطلت - وبكل أسف - على الرئيس عبد ربه.. بل وعلى مندوب الأمين العام للأمم المتحدة: السفير (جمال بن عمر) لمتابعة وإنفاذ أجندة (المبادرة الخليجية) وآليتها المزمّنة.. بينما كان هدف الحوثيين من التوقيع على (اتفاق السلم والشراكة) القضاء على (المبادرة الخليجية) وتكفينها ودفنها في رمال النسيان.. وهو ما حدث تماماً خلال شهور ذلك الخريف الدامي!
* * *
فبعد التوقيع على (الاتفاق) الذي كان ليس بأكثر من بوابة لهم.. واصل الحوثيون أو أنصار الإسلام أو اللجان الشعبية.. التقدم خطوة.. خطوة بـ (السلاح) والحديد والنار، والخطف والقتل وتدمير المنشآت الحيوية.. التمدد إلى خارج (صنعاء).. إلى (عمران) والجوف ومأرب.. وإلى مدينتي (إب) وذمار وإلى محافظتي البيضاء والحديدة.. لبسط نفوذهم، تمهيداً لخطواتهم الجنونية.. التالية؟! والتي بدأت بـ (اختطاف) مدير مكتب رئيس الجمهورية الدكتور أحمد الخطيب.. فـ(محاصرة) مقر رئاسة الحكومة اليمنية وبداخله رئيسها الدكتور خالد بحاح، الذي تمت موافقتهم على اختياره بعد أن استمزج (الرئيس) رأيهم وفقاً لـ(اتفاق السلم والشراكة).. فـ (محاصرة) القصر الرئاسي نفسه وبداخله الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي اضطر إلى تقديم استقالته لرئيس السلطة التشريعية (البرلمان اليمني).. ليلحق به رئيس الحكومة الدكتور البحاح وحكومته، ويفرغ اليمن من ركني شرعيته الدستورية: (رئاسة الجمهورية ورئاسة السلطة التنفيذية).. وهو ما كان يريده الحوثيون لإحكام سيطرتهم على عاصمة البلاد (صنعاء) وعلى السلطة بكاملها التي فرغت باستقالة رئيسي الجمهورية والحكومة..!!
فإذا كان الحوثيون أو (ميليشيا) أنصار الله - وهما شيء واحد -.. قد استفادوا من «خطيئة» توقيع الرئيس عبد ربه معهم على ما سمي بـ (اتفاق السلم والشراكة)، وأعانهم على استثماره دون حسيب أو رقيب.. مرض فموت صاحب (المبادرة الخليجية) وحاضنها وراعيها الأول الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وانشغال الوطن والخليج والأمة العربية والإسلامية كلها بـ(وفاته) والحزن على رحيله.. إلا أنهم وجدوا أنفسهم بحكم ضحالتهم السياسية أمام (تركة) سياسية أكبر منهم.. فكان أن أسعفتهم ذاكرتهم بما كان يفعله (المجلس العسكري الأعلى) المصري الذي حكم مصر ثمانية عشر شهراً بعد تنحي مبارك - مع الفارق بين شرعيته و(استيلاء) الحوثيين للسلطة - بسلسلة من الإعلانات الدستورية.. فكان أن لمع في ذهنهم إصدار (إعلان دستوري) حوثي يقضي بحل مجلسي النواب والشورى، ودعوة الفعاليات والأحزاب السياسية لاختيار مجلس رئاسي مؤقت لإدارة البلاد.. وهو ما لم تستجب له تلك الأحزاب والفعاليات، وما لا يجوز دستورياً.. لافتقار من أصدره لشرعية إصداره، لأن (الإعلانات الدستورية) وما في حكمها.. لا تصدرها ميليشيات طائفية أو حزبية أو حتى دينية.. ولكن تصدرها جهات دستورية تملك شرعية بذاتها.. أو شرعية مكتسبة من صاحبها، ولم يكن الحوثيون.. يملكون هذه ولا تلك!! وهو ما أثار عليهم العالم أجمع.. من مجلس تعاونه الخليجي.. إلى الجامعة العربية.. إلى مجلس الأمن الدولي الذين رفضوا وبالإجماع هذا الإعلان الدستوري (الخزعبلي).. مطالبين (الحوثيين) بالعودة إلى الشرعية اليمنية القائمة، وإلى المفاوضات التي ما زال يجريها السفير الأممي جمال بن عمر.. وإلى مسار (المبادرة الخليجية) إجمالاً.. التي بلغت منتهاها بـ(صياغة) الدستور اليمني الوحدوي الفيدرالي الجديد، ولم يبق أمامها سوى الاستفتاء عليه.. فإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الجديدة.. مع إعلان دول الجزيرة العربية وكثير من دول العالم الداعمة لليمن بإغلاق سفاراتها في (صنعاء) إلى أن تعود الأمور إلى نصابها، ويتم إيقاف الإقامة الجبرية عن رئيسي الجمهورية والحكومة والوزراء.. وسحب الميليشيات الحوثية من المدن اليمنية قاطبة.. وإعادة المعدات والآليات المنهوبة من الجيش وقوى الأمن.. سواء بالتواطؤ.. أو بنهبها بـ(قوة السلاح)!
* * *
لقد أخطأ الحوثيون كثيراً وطويلاً، وارتكبوا في حق (اليمن) وحق أبنائه ما لا يطاق من الجرائم والموبقات، وتجاوزوا كل الحدود.. بعد أن أغرتهم الأجندة الإيرانية أو التركية.. ولكن أكبر خطاياهم عندما اعتقدوا بأن إدارة الجماعة الحوثية في (صعدة) لا تختلف كثيراً عن إدارة الوطن اليمني الكبير - بتاريخه وأرضه وإنسانه وثورتيه..؟ وما أكبر الفارق بينهما.. وما أبعده وكما رأيتموه.. فعودوا - أيها الحوثيون - إلى صعدتكم.. وادخلوا مساكنكم.. قبل أن تساقوا إلى (محاكم الغدر) اليمنية..!