تواجه المساعي الأممية لتثبيت مسار العملية السياسية في اليمن جملة من التحديات السياسية، والأمنية، والاقتصادية المترابطة التي لا يمكن فصل كلٍّ منها عن الآخر، ومواجهتها بات يتطلب تناغم الجهود المحلية مع الجهود والشراكة الإقليمية والدولية، وفق سياسة شفافة وتخطيط سليم لتنفيذ الاصلاحات الإقتصادية والسياسية، وتنفيذ كافة البرامج الكفيلة بالاستيعاب الأمثل للمنح الخارجية، القادرة على تحقيق مقتضيات ومتطلبات إنجاح التسوية السياسية في اليمن، وتلبية طموح المواطن اليمني على الواقع العملي الذي لاتزال تزداد معاناته بسبب عدم استقرار الأوضاع السياسية والأمنية منذُ زمن بعيد وطمأنة الخارج ورؤوس الأموال الأجنية لجذبها وتشجيعها للاستثمار فيه.
ولعل خطورة التحدي الاقتصادي تتصدر هذه الأيام المشهد اليمني في ظل التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر أصدقاء اليمن أواخر الشهر الجاري في العاصمة البريطانية لندن، وتضع أبرز الملفات المعقدة التي تواجه المساعي الدولية لإحلال السلام في اليمن الذي سيطرح بجدية في الإجتماع.
ومن المتوقع أن يقييم الاجتماع ما تحقق من تقدم في الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية التي حددها اجتماع أصدقاء اليمن السابق الذي عقد في نيويورك في 2013، وضمان عمل الدول المانحة عن قرب مع المكتب التنفيذي بهدف ضمان أن الأموال التي تعهدت بها لمساعدة مستقبل اليمن سوف تُنفق بفعالية.
في حين يتطلع اليمن الذي يواجه عجزاً كبيراً في موازنته العامة للعام الجاري، وارتفاع الدين العام للبلاد، وتراجع الاحتياطي النقدي الأجنبى لدى البنك المركزي اليمني، إضافة إلى انخفاض الإيرادات العامة للدولة بسبب تراجع الإنتاج النفطي للبلاد، الذي يعتمد عليه اليمن بشكل أساسي في موازنته السنوية بنسبة تصل إلى 70 في المائة. بحسب تصريحات بعض المسئوليين «إلى اطلاق الدول المانحة أموال التعهدات السابقة لأصدقاء اليمن في الرياض ونيويورك فى عام 2012 وقيمتها 7.9 مليارات دولار ولمساعدته فى مواجهة التحديات الأمنية والسياسية».
رغم هذه الجهود الدولية التي تُبذل لمواجهة هذه التحديات التي تعصف باليمن، لمنع أي انهيار أو تدهور لأوضاعه الأمنية والاقتصادية و السياسية، حرصاً منه على أهمية استقرار الأوضاع فيه التي قد تؤثر بشكل سلبي على الأمن والسلم في المنطقة والممر البحري الدولي. إلا أن تلك الجهود ستبقى كالمسكنات لإطالة وتأجيل المشكلات، وتأخير البدء بالانطلاق نحو الاتجاه الصحيح للوصول إلى مرحلة التعافي، إذا لم يقابلها اليمن بجهود محلية رسمية وشعبية صادقة لتعقب مصادر الفوضى والخلل، ولوضع الحلول الجذرية للمشكلات الاقتصادية من خلال تحديد المؤثرات الرئيسية المتسببة في تدهور الوضع الاقتصادي ومعالجة عمقها وجذورها، بالتوازي مع اتخاذه خطوات عملية لإزالة التركة المثقلة وحل كافة التعقيدات في أوضاعه الاقتصادية والأمنية، والسياسية التي باتت تقلق الداخل والخارج.
فللأسف لاتزال ثقافة الإتكال المورث من الحكومات السابقة منذُ 2006م حين انعقد أول مؤتمر لأصدقاء اليمن في لندن تتسيد مواقف الحكومة الحالية وتتحكم في طريقة تعاملها مع الملف الاقتصادي، كالتعويل على استلام المنح ودعم الخارج فقط، وعدم الاهتمام بعمق المشكلات، التي تعيق تعافي الوضع الاقتصادي من حالة الانكماش والتراجع الاقتصادي الحاصل، ودون تشخيص الأسباب الرئيسية للتراجع ووضع اليد على الألم بشجاعة لتحديد مكامن الوجع وخلفياته، وكيفية معالجة المؤثرات والعوامل المتسببه في تفشي البطالة، وضعف الصادرات، ونمو الفساد السياسي وسوء الادارة والتخطيط، واستمرار اضطراب الأوضاع السياسية فيه.
أثارت بعض التقارير الدولية الصادرة مؤخراً مخاوف الداخل والخارج من مآلات الوضع وخطورته في هذا البلد الذي يعيش ثلث سكانه البالغ عددهم 25 مليون نسمة على أقل من دولارين في اليوم، وتقدر البطالة فيه بحوالي 35%، في حين تصل هذه النسبة بين الشباب إلى 60 في المائة.
حيث يؤكد تقرير صادر عن المعهد الملكي "تشاتام هاوس" في امريكا تحت عنوان «اليمن الفساد وهروب رأس المال والأسباب العالمية للصراع» بحسب صحيفة الوفد المصرية بتاريخ 17 أبريل،« إنّ اليمن مازال بعيداً عن الطريق المضمون نحو مستقبل آمن ومزدهر، ويوضح أنّه يواجه مخاطر جدية من الزعزعة السياسية وأزمة موارد قادمة بسبب النضوب السريع لاحتياطي النفط التي تدعم موازنة الدولة.
ويشير إلى أنّ الحكومة الانتقالية في اليمن التزمت بإصلاحات سياسية واقتصادية، لكن قد يصعب عليها إنجازها نظراً إلى تعارضه مع مصالح النخب القائمة.
مرجحاً تفاقم الاضطرابات السياسية المتبوعة بتنـامي درجات الفقر وانتشار المجاعة، مفسّرا ذلك بتنامي درجة الفساد المالـي وهروب رؤوس الأموال إلى الخـارج منـذ سنة 2011م.
كما يوصي المانحون الغربيون والخليجيون بضرورة اعتماد تخطيط استراتيجي أكثر فعالية يوازن الاختلافات والمقايضات بين أولويات الأمن ومكافحة الإرهاب القصيرة الأجل وبين أولويات التنمية الاقتصادية والسياسية الطويلة الأجل.
ويرى إنه لتفادي انهيار اليمن ولتعزيز استقراره الاقتصادي فمن الضروري لمانحي اليمن تعميم استخدام تحليل الاقتصاد السياسي وتحسين فهمهم لحوافز النخبة».
بالنظر والتدقيق في ما ورد في التقرير والمؤشرات والبيانات الاقتصادية الصادرة عن الجهات الرسمية اليمنية، التي تؤكد ان هذا البلد الذي ينتج كميات قليلة من النفط، لايزال يعاني من استمرار الاعتداءات المتكررة على أنابيب النفط، وهو ما يتسبب في توقف الإنتاج في عدة حقول، وتكبده خسائر بمليارات الدولارات ؛ وإلى اجماع خبراء الاقتصاد اليمنيين على ان استمرار الفوضى في اليمن، سيجعل منه بلداً طارداً للاستثمارات، وأن هذا الوضع قد يهدد بانتكاسة كبيرة للاقتصاد الوطني المتدني أصلاً.
إلى جانب ماتشير اليه تقارير دولية حول العقبات الأخرى لتنمية اليمن المتمثلة في تدفق رأس المال إلى الخارج الذي تيسره الملاذات الضريبية، وهو تدفق يجعل المساعدات الدولية الواردة ضئيلة بالمقارنة، فمقابل كل دولار صرف على المساعدات في اليمن بين عامي 1990 و 2008، خرج منه 2,70 دولار.
يتضح من كل ما جاء فيها ان هناك مؤثرين أساسيين على النمو الإقتصادي، يمكن وضعهما في صدارة أولوية المهام المطلوب التعامل معهما بصرامه في المرحلة الراهنة هما «الإرهاب والفساد» اللذان إذا تم مواجهتهما بصدق وتضحية، ووفق خطط وبرامج مدروسة دون إخضاعهما للأهواء والمزايدات السياسية ودون وضعهما في ميزان المداهنة و الحفاظ على المصالح الشخصية، والتخلي عن سلوك الإثراء غير المشروع، والتفيد على حساب مصالح الشعب اليمني، بذلك يمكن انقاذ الوضع الإقتصادي وتحديد مسار الوصول بأمان إلى المراحل القادمة لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني وبناء الدولة المدنية، التي يعول عليها الداخل وقبله الخارج، لإخراج اليمن من هذا الوضع المأساوي الذي أصبح يُشكل مصدر قلق وخطر على المعمورة.
قد اتفق مع من ينظر من زاوية أن الموقع الاستراتيجي لليمن يفرض على دول المنطقة والعالم الحرص على أوضاعه والاهتمام باستقرارها، ومنع أية بوادر أو مؤشرات لانهياره اقتصادياً، وإنجاح عملية التسوية السياسية للإنتقال إلى مرحلة بناء الدولة القادرة على البقاء والاستمرار وحماية المصالح الاقليمية والدولية، لكن ذلك لايعفي من بذل جهود محلية ملموسة تحقق أهداف الدعم الدولي لليمن.
من تلك الجهود المطلوبة إنهاء حالة الفساد السياسي وتجفيف منابع الإرهاب كمؤثرين لايرتبط التخلص منهما بجهود الخارج فقط، بل على المجتمع بكل شرائحه استشعاراً للخطر الذي يهدد مستقبل أبنائه، وعدم الانتظار كثيراً والتعويل على الخارج فقط، وتشمير السواعد، ومواجهة هذا الخطر بمسئولية وطنية عالية، والتخلص من ثقافة الاتكال على الغير دون الاحساس ان الوطن ينهار، وممارسة البعض منا لسلوك دفن الرؤوس في الرمال كالنعام، الأمر الذي يتطلب من الجميع القيام بالواجب الوطني، ولكن على أُسس وضوابط تؤتي الثمار في المستقبل القريب، على أن تسبقه النوايا الصادقة للجهات الحكومية والقطاعات الشعبية والمسؤلين والأحزاب السياسية.
فالفساد والإرهاب مؤثران متداخلان بسبب تسيد ثقافة الفيد والعنف في المجتمع وأصبحا يحاصران الاقتصاد اليمني، ويعيقان أية مساعٍ إقليمية ودولية للنهوض به، مما أفقد أثراً ملموساً من تلك المنح والمساعدات، وتحويلها وكأنها تُصب في أوعية مثقوبة وممزقة بفعل أعمال الإرهاب، والفساد الإدراي والسياسي، وغياب الحوكمة في الأعمال الاقتصادية، وعدم إحراز أية نتائج وتضحيات ملموسة في مكافحة الفساد كتلك التي نراها تتقدم في مجال محاربة الإرهاب ونلمس نتائجها اليوم على الأرض، ونطالب باستمرارها ومواصلتها وعدم توقفها حتى لا تتحول في نظرنا ونظر الغير بأنها موسمية تستبق أية حدث اقتصادي أو سياسي مرتقب فقط، وعدم استمرارها تبقى المشكلات وأسبابها قائمة، وقد تدفع بالمجتمع الدولي إلى صرف أنظاره عن ما يدور في اليمن وحينها سيجد المجتمع اليمني نفسه أمام امتحان يصعب اجتيازه.
n.albadwi2013@hotmail.com