|
حوار الأديان أم جدال الأديان
بقلم/ احمد صالح الفقيه
نشر منذ: 11 سنة و 5 أشهر و 4 أيام السبت 13 يوليو-تموز 2013 10:52 م
لطالما كان الحديث بين أتباع الديانات المختلفة في المسائل الدينية جدالا لا حوارا، فالأديان كلها تدعي احتكار الحقيقة، وأنها الحق المحض وغيرها الباطل. والملفت أن اليهودية تنكر المسيحية التي جاءت بعدها، بينما تعترف المسيحية بسماوية اليهودية وتنكر الإسلام الذي جاء بعدها.
ومن هنا فان الحوار بين الادبان مجاله السياسة والسياسيون،إذ أن اللاهوتيون لا يملكون تقديم أي تنازلات تمس عقائدهم ومواقفهم المسبقة. والحوار السياسي بين أتباع الديانات المختلفة إنما يجب أن ينصب حول التعايش ونبذ التطرف المفضي إلى العدوان على أتباع الديانات أو المذاهب الأخرى. وهذه التناولة مساهمة في مناقشة التطرف وآلياته ودواعيه.
الأيديولوجيا والتطرف:
ترجع جذور الأيديولوجيا إلى ما يسمى في علم النفس (المفهوم الفكري) و(المفهوم السيكولوجي). حيث ينقسم المفهوم الفكري إلى واعٍ ولا واعٍ، وحيث ينقسم المفهوم السيكولوجي(الأيديولوجي والفني) إلى جزئي وعام.
وتظهر لنا الحصيلة التاريخية أن الإنسان أبدى نزوعاً وميلاً منذ وقت مبكر إلى بناء عالم فكري خاص به مفارق لواقع عالمه المادي ومواز له. وتلك حيلة قديمة لجأ إليها للتغلب على شعوره بالعجز على المستويين المعرفي (الابستمولوجي) العجز عن الفهم، والوجودي (الانطولوجي) العجز عن الامتلاك، وذلك عن طريق إعادة تعريف وتسمية مكونات عالمه، كلياً أو جزئيا،ً بما يتناسب مع رغباته وأمانيه.
البناء الخيالي الناتج عن هذا النزوع والميل، هو ما أصطلح الناس على تسميته أدباً وفناً لغوياً إذا كان جزئياً، وهو أيضا ما اصطلحوا على تسميته بالأيديولوجيا إذا كان ذا بنية شاملة.
الأيديولوجيا والأديان السماوية:
يقوم الناس بتحويل الدين السماوي إلى أيديولوجيا بالحذف والإضافة أو بالابتسار والاجتزاء، أو بالتفسير المغلوط، ذلك أن الأيديولوجيا تكوين غائي يهدف إلى التغلب على عجز الإنسان على المستويين المعرفي والوجودي، المتمثلين بالعجز عن الفهم، والعجز عن الامتلاك.
وعند تحليل هذين المظهرين من مظاهر العجز الإنساني، نجد أن عجز الإنسان عن الفهم راجع إلى الهوى ثم إلى التخلف العلمي والتقني، وقصور مناهج البحث. أما العجز عن الامتلاك فهو شعور ناتج عن الطمع والجشع أولاً، ثم عن ندرة الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان لإشباع حاجاته. ولهذا يرى الإنسان في الآخر - فرداً أو مجتمعاً -منافساً خطيراً على الموارد النادرة يجب إقصاؤه ولو بإلغائه. ولذلك فإن الأيديولوجيا البشرية تتسم بسمتين رئيسيتين على وجه الحصر:
· تقدم في المجال المعرفي إجابات جاهزة، وهذه الإجابات عندما تتعلق بأمور علمية تؤدي إلى ظهور تهافت الأيديولوجيا وكذبها.
· وفي المجال الوجودي تنزع إلى الرفع من شأن الذات مقابل وصم الآخر وتحقيره والتقليل من شأنه تمهيداً لإلغائه.
والأمثلة على الإجابات المغلوطة في المجال المعرفي نجده في تصميم الكنيسة الكاثوليكية على أن الأرض مركز الكون، حتى أنها أحرقت العالم برونو جوردانو حياً عندما قال بغير ذلك، وكادت تفعل الشيء ذاته بالعالم جاليليو جاليللي لو لم يتراجع عن أقواله أمام محكمة التفتيش الكنسية. كما نجده فيما تمت إضافته إلى التوراة والعهد القديم من الإنجيل من أن العالم تم خلقه منذ ستة آلاف سنة وما أشبه ذلك.
أما في الناحية الوجودية، فهناك مقولة شعب الله المختار مقابل الأغيار في التلمود. ومقولة الأمم والشعوب المتحضرة مقابل الشعوب الهمجية والبربرية (توني بلير). ومقولة الجنس الآري المتفوق مقابل الأجناس المنحطة (هتلر). والشر مقابل الخير (جورج بوش)الذي بدا متأثرا بالفكر الصليبي؛ فبعد أن تحدث عن شن حملة صليبية ضد الإرهاب ـ قيل فيما بعد أنها زلة لسان ـ.إذا به يسلك سلوكا يشبه شعار داعية الحروب الصليبية الفرنسي (القديس) برنار الذي كان يقول " إن قاتل المسلم ليس قاتل إنسان بل هو قاتل شر". وهناك في الجانب الإسلامي مقولة "خير أمة" مقابل أبناء القردة والخنازير (التطرف الإسلامي). وهذه المقولة الأخيرة رغم أنها مجتزأة من نصوص القرآن فإنه يتم استخدامها استخداماً أيديولوجياً بشريا ـ على خلفية العدوان الإسرائيلي الوحشي المستمر على الفلسطينيين، ـ ذلك أن القرآن يقول أيضاً في موضعين: ((يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)) البقرة 47،122. كما يقول ((آن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) البقرة 62 كما يقول ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)) المائدة 8. فالتطرف فقط هو الذي يصدر أحكاماً شاملة غير قابلة للتعديل على أمم بأكملها ويصمها ويحقرها، فالتهمة أبدية لا تميز بين آثم وبريء وكذلك العقوبة. ولذلك نرى أن الأيديولوجيا ذات المنشأ البشري مثلها مثل الاستخدام الأيديولوجي للدين بعيدة عن الرسالات السماوية القائمة على العدالة المطلقة التي لا تحابي أحداً. وهذه من أهم المعايير في الحكم على أصالة النصوص الدينية أو صحة فهمها فيما أرى.
وعليه فإنه يمكن للمرء أن يحكم بثقة ويقين، أن فكر التطرف الإسلامي الذي يصم الآخر ويحقره تمهيداً للحكم عليه بالإعدام والإلغاء، والذي يتذرع بالمقدس والقداسة لمنع الحوار والنقاش والمحاججة، حتى وصل الأمر ببعض فرقه إلى تكفير المسلمين بل ومجتمعات إسلامية بأكملها ومن ثم استحلوا بذلك دماء المسلمين، مثل هذا الفكر، لا يمكن أن ينسب إلى دين سماوي عظيم كالإسلام. فهو لا يخرج عن كونه أدلجة بشرية تحريفية للدين السماوي تماماً كالتحريفية المسيحية واليهودية.
فالإسلام جاء بتعاليم فيها كرامة الإنسان وتكريمه بنص القرآن، وفيها حفظ دمه وماله وعرضه وتحريمها تحريماً باتاً إلا رداً لعدوان، لقوله تعالى ((وعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)). فالجزاء في الدين السماوي من جنس العمل. والنقاش يقابل بالنقاش، والحجة بالحجة لا بالسيف. وحتى الحدود التي جعلت عقوبات على جرائم، لها ضوابط تدرأها، حتى أنه يمكن للمرء القول، أن الحد تطهير لا عقوبة، وأن الضوابط التي أحيطت بها الحدود تكاد تجعلها مستحيلة التنفيذ بغير رضى من تقام عليه.
خصائص الأيديولوجيا:
وللأيديولوجيا مجموعة من الخصائص نوجزها فيما يلي:
1- أن إبداع كل أيديولوجيا هو في الأصل إنجاز فردي بامتياز، ذلك أن بنيتها لا يمكن أن تتكون في عقول متعددة منفصلة، لأنها لا تمتلك كلياً أو جزئياً ما يسندها في وقائع العالم المادي بحيث يصل إليها أناس متعددون في آن واحد دون أن يطلع أحدهم على عمل الآخر، بعكس ما هو الحال عليه في النظرية العلمية مثلاً.
2- أن كل أيديولوجيا لها طابع تبشيري وذلك فرع فرديتها، ولذلك كان التبشير طريقها إلى عقول الجماعة.
3- أنها تستثير العواطف والغرائز والأهواء ولا صلة لها بالعلم المرتكز على الوقائع المادية.
4- ينتج عن الخاصية السابقة أن الأيديولوجيا تنزع إلى الاستبداد لقطع دابر النقاش والمحاججة اللذان يهدمان أسسها، ولذلك فهي تسعى إلى التوحد بالسلطة، أو الانفراد بها، ومن ثم إضفاء القداسة على نصوصها تمهيداً لفرضها دون نقاش. ذلك لأن الإنسان اعتبر السلطة دائماً مصدراً من مصادر الحقيقة التي تتجاوز في معناها الصدق والكذب العاديين إلى المعرفة المطلقة بمعناها الفلسفي.
5- لأن الأيديولوجيات كلها أفكار ذاتية وليست موضوعية، فإنها تقف أمام بعضها على قدم المساواة لافتقارها كلها إلى سند من العالم المادي الذي يستمد منه الإنسان فكره الموضوعي ببنيته المنطقية.
الفكر والأيديولوجيا:
يقوم الفكر على أساس من اللغة، القائمة بدورها على تسمية الأشياء المتنوعة والكثيرة في العالم المادي، في بناء منطقي يعكس العلاقات بين الأشياء ضمن بنيتي الزمان والمكان. ويهدف هذا البناء المنطقي للغة، إلى لم شتات العالم في مكوناته الكثيرة المتعددة، وذلك في مسعى ابستمولوجي لفهم العالم واستخراج المعنى منه عبر الفكر. ومسعى انطولوجي للسيطرة على هذا العالم وامتلاكه، ومن ثم التخلص من الاغتراب المضني الذي يعانيه الإنسان فيه، وهو الاغتراب الناتج عن الكثرة الظاهرية لمكونات العالم، التي تتحدى الإنسان وتقابل هويته بهويتها الخاصة، وتقاوم رغباته واحتياجه إلى استئناسها وامتلاكها واستهلاكها، احتياجاً اضطرارياً لأسباب محض وجودية.
ولما كانت طبيعية البناء المنطقي للغة وبالتالي للفكر، في شقيها التحليلي والتركيبي، قائمة في الأساس على قضايا منطقية ذات مقدمات، ثم نتائج مستخلصة من تلك المقدمات، فإنها تقبل مقدمات خيالية مصطنعة لا تستند إلى وقائع مادية، فتؤدي إلى نتائج مصطنعة بدورها. وهذه النتائج المصطنعة هي أحجار البناء التي تستمد منها الأيديولوجيا بنيتها.
إنتاج التطرف:
إن كون الأيديولوجيا متساوية في عدم إمكانية الحكم بيقين على مصداقية أي منها، قد أدى إلى جعل الإيمان الأعمى والتطرف في هذا الإيمان أهم عامل لبقاء الأيديولوجيا وفرضها على الآخر.
والأيديولوجيات التي لا تزال مشتبكة في صراع دائم منذ عرف الإنسان الأيديولوجيا، إنما يعمل كل منها كستار يغلف المطامع السياسية والاقتصادية لأتباعها.
ومع هذه العدوانية المتأصلة كان لابد أن يتصف أتباع كل أيديولوجيا بالتطرف وخاصة في مراحل الضعف والقوة.
·ففي حالة القوة يقدم التطرف المبرر الأخلاقي لقتل وإلغاء الآخر أو استعباده واستتباعه.
·وفي حالة الضعف يصبح التطرف وسيلة ناجعة لحماية الذات والحقوق والهوية التي يستهدفها العدو.
ومن جهة اخرى فان من ينظر في أحداث المائة السنة الأخيرة يجد أمثلة كبيرة وكثيرة. فمفكرو فرنسا (الأحرار) قاموا بتبرير المذابح التي قتلت ملايين الجزائريين على يد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. كما برر مفكرو الغرب المسيحيون وغير المسيحيين إبادة الأجناس في استراليا وفي القارة الأمريكية. كما برر مفكرو بريطانيا الفظاعات التي ارتكبتها جيوشهم وإدارتهم في أرجاء الأرض، حتى عندما بلغت البشاعة بالبريطانيين إلى قطع الإصبع الإبهام من مئات الألوف من الفتيات الهنديات لمنعهن من غزل النسيج على أنوالهن المنزلية، حتى لا ينافسن بإنتاجهن إنتاج المصانع البريطانية التي تصدر النسيج إلى الهند، حسب ما جاء في كتاب الزعيم الهندي جواهرلال نهرو الموسوم (رسائل إلى ابنتي). وحتى عندما قامت جيوشهم بالعدوان المسلح على الصين لفرض إلغاء القوانين التي أصدرها إمبراطور الصين بمنع تعاطي مخدر الأفيون الذي كانت تصدره بريطانيا وتحتكر تجارته في الصين. ثم يأتي ما نراه هذه الأيام من اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب عموماً العمليات الاستشهادية للفلسطينيين إرهاباً مع أنهم يخوضون حرب تحرير وطنية ضد محتل شرس مسلح حتى الأسنان بالأسلحة الغربية، وفي الوقت ذاته اعتبار قتل الفلسطينيين واللبنانيين بتلك الأسلحة الغربية الحديثة الفتاكة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي عملاً من أعمال الدفاع عن النفس.
وبعد ان تمكنت المقاومة اللبنانية والغزية من دحر العدوان الاسرائيلي عامي 2006، و2009 لجأ الغرب الى تفعيل سلاح الفتن الطائفية التي بدأها في العراق لتشمل سوريا ولبنان واليمن.
لقد اتفق العرب والمسلمون معتدلوهم ومتطرفوهم على الكفاح المسلح ضد العدوان. والجميع على حق. لأن الغرب يظهر بممارساته أنه إرهابي ومتطرف، يمارس الكذب والغش والخداع مدعياً الاحتكام إلى القانون، ويمارس الجرائم ضد الإنسانية باسم حقوق الإنسان.
والغرب بسياساته هذه يخلق الإرهاب المضاد لإرهابه. وهو بتفوقه العسكري الكاسح، يجعل الحرب ضده خاسرة ما لم تخض بإحدى طريقتين على وجه الحصر أثبتت التجربة نجاعتهما. وهذان هما:
·إما حرب العصابات في الأوطان المستهدفة باستخدام أسلحة ذات تقنيات منخفضة مع التعويض عن انخفاض التقنية باستعداد عالٍ للاستشهاد من أجل إيقاع الخسائر بالعدو.
·أو باستخدام تقنيات عالية جداً مثل الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية في عقر دار الغرب نفسه وهو التوجه الذي تشي به وتشكل مقدماته أحداث الحادي عشر من سبتمبر 1991م.
وقد جعلت المنجزات العصرية في عالم الاتصالات من التبشير الأيديولوجي على النطاق العالمي عملاً ممكناً، وهو ما يهدد بالحروب العالمية التي يمكن أن تكون رد فعل على (عولمة العدوان). ولا يمكن تجنب هذا الخطر إلا بوجود توازن رعب حقيقي للقوى يمنع العدوان والاستكبار وهو ما انتهى بنهاية الحرب الباردة. ومن المؤسف أن العرب والمسلمين لم يعوا ذلك إلى اليوم. وكان لدى أنظمتهم وقادتهم من قصر النظر، وما لا يمكن وصفه من انعدام الحساسية، حتى أنهم سمحوا بأن يتسلح عدوهم بمئات الرؤوس النووية وهم عزل من السلاح ينتظرون الضربة في أي وقت، وما يدهشني حقاً أنه لا تظهر أي مظاهر للقلق على أي من هؤلاء القادة فأوزانهم - كما نرى على الشاشة الصغيرة يومياً - تزداد باستمرار وكأن سيف ديمقليطس ليس مسلطاً على رقابهم ورقاب شعوبهم. ليس ذلك فحسب بل انهم يشاركون الغرب في محاربة المشروع النووي الايراني. |
|
|
|
|
|
|