لا استبعد فرضية أن تكون ايران مصدر تلك الأسلحة بل اني اُرجح هذه الفرضية, لكن التوظيف السياسي لموضوع السفينة, وسعي كل طرف لجني الأرباح, على حساب مصلحة اليمن, سلبنا القدرة على التأمل وبهدوء لمعرفة القصة الحقيقية بناء على المعطيات المتوفرة لنا.
بحسب المعلومات التي كشفها وزير الداخلية ورئيس جهاز الأمن القومي, فان حمولة السفينة احتوت على عشرات الصواريخ والمناظير الإيرانية الصنع, وهذا بدوره يضعف من احتمال أن تكون وجهة تلك الأسلحة الى اليمن و للحوثيين تحديداً كما يحاول ان يروج البعض, كما يستحيل أن تكون للحراك الجنوبي, اذا كانت ايران لم ترسل أي اسلحة -بحسب شهادة الامريكيين في ويكي ليكس- للحوثيين في حروبهم الست ضد النظام, وخصوصاً حربهم الأخيرة التي شارك فيها علناً النظام السعودي "عدوهم اللدود", فلا اعتقد ان ايران سترسلها الآن, خصوصاً في ضل موجة الاتهامات الرسمية لها, فهل يعقل ان تقدم ايران الأدلة بنفسها؟ و كان بإمكانها ارسال مبلغ من المال ليتم به شراء أسلحة -غير ايرانية- سواء من السوق المحلية أو من مهربي السلاح في القرن الافريقي, وتريح نفسها من عناء الفضيحة.
من خلال تتبع الصراعات الدائرة في المنطقة واحتياجات الجماعات المسلحة ونوعية الأسلحة المصادرة يمكننا ان نرجح ان تلك الأسلحة متوجهة الى احدى الجماعات التالية: حزب الله, الجيش السوري الحر, جبهة النصرة في سوريا, حركة حماس, حركة الجهاد.
تأكيد الجهات اليمنية بأن السفينة مرت من ايران قد يكون صحيحاً, لكنه لا يلغي احتمال ان السفينة تم تحميلها في مكان آخر بعد خروجها من ايران, الا أن وجود اسلحة ايرانية عليها يرجح انها حُملت بالأسلحة في ايران (مع عدم استحالة تحميلها بأسلحة ايرانية في أي مكان آخر لأن الأسلحة الإيرانية تُصدر للكثير من الدول), وبالتالي فهذا يضعف احتمال أن تكون متوجهة الى الجيش السوري الحر أو جبهة النصرة, ويمكننا كذلك استبعاد ان يكون حزب الله هو وجهة الأسلحة لأن السواحل اللبنانية شبه محاصرة اضافة الى ان سوريا لا تزال هي المعبر الرئيسي لأسلحته, وهذا يقودنا الى ترجيح ان تكون تلك الأسلحة متوجهة الى قطاع غزة والأرجح ان تكون لحركة الجهاد الاسلامي الأكثر قرباً من طهران هذه الأيام.
نوعية الأسلحة تؤكد أن غزة هي الوجهة, فالمواد الشديدة الانفجار دائماً ما تستخدمها حركات المقاومة الفلسطينية في صنع العبوات والأحزمة الناسفة, كما ان صواريخ الكاتيوشا المحمولة افضل الأسلحة لضرب المستوطنات, اضافة الى ان صواريخ أرض جو تمنع الطيران الاسرائيلي من التحليق على علو منخفض فتقل احتمالية اصابته للأهداف.
وبما ان ايران لا تتحرج من وصول اسلحة من صنعها الى غزة, بل تتعمد ذلك لرمزيته في الصراع مع اسرائيل, فهذا يفسر وجود بعض الاسلحة المصنوعة في ايران.
بالتأكيد أن السفينة لن تتجه الى ميناء ايلات الاسرائيلي لتفرغ حمولتها فيه, كما أن السلطات المصرية لم تصل بعد الى المرحلة التي تسمح فيها بإنزال اسلحة ايرانية في موانئها ليتم لاحقاً ايصالها الى غزة, بل انها لا تزال تصادر الكثير من الأسلحة المتوجهة الى هناك وفي ضل حكومة الاخوان المسلمين.
هذا يقودنا الى ترجيح أن السفينة كانت متوجهة الى السودان (خصوصاً بعد ان دمر الطيران الاسرائيلي مصنع السلاح الممول ايرانياً في السودان) ليتم تهريب الاسلحة لاحقاً عبر الأراضي المصرية وصولاً الى سيناء ثم غزة, وهذا يفسر اختيار بحارة يمنيين لقيادة السفينة لخبرتهم الملاحية في المنطقة, ووجود عمليات واسعة لتهريب الديزل - وهذا يفسر حمولة الديزل الذي على السفينة - اضافة الى أنهم كيمنيين لن يُثيروا الشبهات, وحتى لو تم اعتراضهم من قبل خفر السواحل اليمنيين اثناء مرورهم بالقرب من المياه الاقليمية فالبحارة اليمنيين سيتمكنون من التفاهم مع اقرانهم بلغتهم الخاصة " حق ابن هادي واجزع لك ", ويمنيتهم أيضاً ساعدتهم على الخروج بالسفينة من أحد الموانئ العمانية مع انهم قاموا بتفتيشها, مع ملاحظة أن البحارة قد لا يكونوا على دراية بحمولة السفينة من الأسلحة, اضافة الى أن ذلك لا يُلغي فرضية أن المخابرات الأمريكية وبالتعاون مع السلطات العمانية اكتشفت الشحنة في عُمان, وتم تسهيل خروجها من هناك ليتم مصادرتها في اليمن لأن ذلك يحقق لهم اهداف كثيرة.
كما أن الكشف الأمريكي عن موضوع السفينة قبل اعلان السلطات اليمنية ذلك يؤيد فرضية اكتشافها في عُمان, واعتراض البوارج الأمريكية لها يرجح أيضاً ان الصفقة متجهة الى غزة, فالمخابرات الأمريكية والاسرائيلية مهتمة بتلك الصفقات وتتابعها بأدق تفاصيلها, لخطرها الوجودي على اسرائيل ولأنها قد تُخل بموازين القوى داخل فلسطين.
ومن هنا فان اعتراض السفينة بالقرب من سواحل اليمن واقتيادها الى أحد موانئه يحقق للأمريكيين عدة أهداف ويجعلهم يضربون أكثر من عصفور بحجر واحد, لأنه لو تم اعتراض السفينة وكشف حمولتها في السودان فان ذلك سيسهل على الايرانيين تسريب اخبار عن وجهة تلك الأسلحة, ليحققوا على الأقل نصراً معنوياً كونهم يدعمون المقاومة في فلسطين, وذلك هو الهدف الأول من كشف حمولة السفينة في اليمن, وهو تفويت الفرصة على ايران بتحقيق حتى مجرد نصر اعلامي, وجعلها تتردد في تسريب معلومات - بعد الامساك بالسفينة قرب السواحل اليمنية - عن وجهة السفينة الحقيقية, خصوصاً انها ستكون غير مقنعة للبعض بسبب ترافق ذلك مع اتهامات يمنية لها بالتدخل وتهريب الأسلحة وزرع خلايا تجسس, وبذلك السيناريو المحكم فقد وضع الأمريكيين الايرانيين بين فكي كماشة, وبذلك لن تتمكن ايران من التخلص من الموضوع في اليمن عبر التسريبات, وستحتاج الى توضيح رسمي عن وجهة الصفقة, ويقابله اعتراف من حركة الجهاد الاسلامي بذلك, لكن هذا مستحيل لأنه سيبرر الضربة الاسرائيلية الأخيرة لمصنع السلاح في السودان, اضافة الى اعطاء اسرائيل ذريعة لاستمرار قصفها لما تسميه عمليات تهريب للأسلحة من السودان الى مصر ومنه الى غزة, اضافة الى ما سيسببه ذلك من احراج للسودان وفرض عقوبات دولية عليه.
بالتأكيد فأنه من الأفضل للأمريكيين أن تظهر ايران وكأنها تمول صراعاً طائفياً داخل اليمن على أن تظهر وهي تمول حركة سنية تقاوم اسرائيل لاستعادة فلسطين, القضية الجامعة للمسلمين بمختلف مذاهبهم, وهذا هو الهدف الثاني للأمريكيين من كشف حمولة السفينة في اليمن قبل وصولها السودان وهو اذكاء الصراع المذهبي في المنطقة وتشويه الدور الإيراني المقاوم.
اضافة الى أن الأطراف الرسمية اليمنية حققت عدة أهداف, منها مصادرة الحمولة, اضافة الى اثبات جدارتهم تجاه الأمريكيين, كما ظهرت أطراف اقليمية وداخلية سياسية ومذهبية تحاول الاصطياد في الماء العكر, فالسعودية وبعض دول الخليج وجدت ضالتها في القضية كمبرر لاستمرار حملتها ضد ايران خصوصاً بعد أن مل الناس الموضوع السوري, وأيضاً لدفع اطرافها في الداخل لاستثمار الموضوع بطريقة مزدوجة ضد ايران وفي نفس الوقت ضد الحوثيين, لوقف تمددهم بعد ان أرعبهم الاحتفال الحاشد بالمولد النبوي في صنعاء بالتزامن مع صعدة, اضافة الى اثارة موضوع سلاحهم - والدور الايراني المحتمل فيه- ليتم تصعيده كقضية في مؤتمر الحوار للضغط عليهم للتنازل عن بعض استحقاقات قضية صعدة, بل ووصل الأمر بالبعض الى محاولة حشر الحراك الجنوبي ايضاً بهدف ضرب الرئيس علي سالم البيض, بعد أن تمكن فصيله في الحراك من الحشد الهائل الذي أذهل العالم, فضرب هذا الفصيل ورأسه يعتبر مطلب شخصي للرئيس هادي الذي لا يزال يعيش " الزمرة والطغمة", و كل ذلك يدل على التوظيف السياسي للقضية برمتها.
ولأن ايران سترفض حتماً أي لجان تحقيق دولية, لأن تلك اللجان لا تعترف بحق الفلسطينيين في المقاومة, وبالتالي فإن اية لجان دولية ستدين ايران بتهريب الاسلحة الى غزة رسمياً, وهذا قد يعطي الذريعة التي طالما بحثت عنها إسرائيل لضرب المنشآت النووية الإيرانية في نفس الوقت الذي تظهر فيه وكأنها تدافع عن نفسها, وستلقى دعماً دولياً, مما يضعف قدرات النظام الايراني في الرد بقوه, وعليه فأن ذلك الرفض الايراني سيمكنهم من الصاق التهمة بهم, وهذا يفسر مسارعة اليمن -بضغط من الأمريكيين- لطلب لجان تحقيق دولية, قبل حتى ان يطلبوا من ايران معلومات أو حتى تشكيل لجان مشتركة قد تَقتَنِع بعذر ايران عندما تتضح لهم الحقيقة, وخصوصاً اذا تم عقد لقاء بين تلك اللجان المشتركة " اليمنية الإيرانية" وبعض قيادات حركة الجهاد الاسلامي, مما كان سيؤدي حتماً الى غلق الملف دون ضجة اعلامية, لأن الجميع سيكون محرجاً أمام حركة مقاومة فلسطينية عريقة.
للأسف وبحسب اعتقادي فأن سلطات بلادنا تمارس دوراً ما كان ينبغي أن تتورط فيه لتعارضه مع مصالحنا الوطنية والقومية والاسلامية, بهذا الدور فإنها تنقل معركة الأقطاب من سوريا الى اليمن خصوصاً بعد اعتراض روسيا والصين على بيان ادانة ضد ايران من مجلس الأمن بخصوص صراع في اليمن ولأول مرة للأسف الشديد.
وفي الأخير أود أن أوجه سؤال للرئيس هادي: أين تريد أن تمضي بنا؟ ولماذا تتبع اسلوب صالح في الحكم عبر ادارة البلاد بالأزمات والصراعات الإقليمية؟ بل إن التاريخ سيسجل أنكم بلغتم في ذلك مبلغاً لم يتمكن منه صالح بعد أن رفعتم مستوى الصراع في اليمن من اقليمي - كما كان ايامه- الى دولي في عهد فخامتكم.
albkyty@gmail.com
"نقلاً عن صحيفة الأولى"