فجأة قد يجد الواحد منا نفسه أمام أحد خيارين , اما ان ينحاز لولاءاته الفكرية والايديولوجية وينخرط للقتال فى صفها مدافعا بالحق والباطل , واما ان ينحاز لفكرة العدالة ويدافع عن الحقيقة حتى لو كانت بيد من هم ليسوا من نهجه , وهنا تظهر معادن الناس , ومدى قدرتهم على خدمة البشرية وتحملهم سهام النقد غير المنطقية من اجل العدالة .
ولاننى وقعت بين احد خيارين اولهما عبر عنه الرئيس الامريكى المجرم جورج دبليو بوش "من ليس معى فهو ضدى" والاخر للفيلسوف الفرنسي فولتير الذى قال"قد أختلف معك فى الرأى و لكنى مستعد أن أدفع حياتى ثمنا لحريتك فى الدفاع عن رأيك" لذلك اخترت ان انحاز للعدالة , حتى لايقال ذهب العدل من الناس.
وسألنى احد الاصدقاء حول توقعاتى عما قد يحدث فى 25 يناير القادم وهو اليوم المناسب للذكري الثانية للثورة وعما قد تنتهي اليه عمليات الحشد المريبة التى تتم من قبل جماعات واحزاب واجهزة امنية توالى نظام مبارك , وقلت له اننى سأكتب مقالا حولها وعزمت ان اكتب عن مغامرات وبطولات ومعارك "دون كيشوت" , واعتبرتها هى الاقرب والاكثر تعبيرا عن طبيعة المرحلة , لانها معارك لاقيمة لها , وبطولاتها مفتعلة , ومغامراتها مخجلة , وستنتهى بمزيد من سكب الدماء دون وصول لهدف لا اكثر ولا اقل , فى معركة غير معروفة الاسباب ولا المبررات ولكن يعرف منها الهدف وهو تقويض نظام حكم الرئيس محمد مرسي , وستنتهى كما انتهى امر "دون كيشوت" بانه يكتشف انه كان مسخا , ضيع وقته ووقت الناس معه.
والحقيقة ان هناك ملفات منها القديم ومنها المستجد كان يجب ان اتطرق اليها , القديم هو الخاص بتطهير القضاء والسلك الدبلوماسي , والمستجد منها الاخونة .. بينما يبقي الملف القديم الجديد هو سلطة الاعلام.
ومنذ عدة سنوات والمجتمع المصري برمته من النخب ومن غير ذى النخب , ساخط بشدة على الفساد فى هذا الملف المهم , سواء من ناحية ألية تعيين وكلاء النيابة وباقي الاجهزة القضائية او من ناحية عدالة الاحكام وموضوعيتها , وكلنا يعلم - ولا ينكر ذلك مصري واحد الا اذا كان لا يعلم او فى نفسه مرض - انه طوال فترة الرئيس المخلوع لم يعين فى هذا المجال الا واحد من اثنين الا فيما نذر وهم قليلون للغاية , اما راشي , والتسعيرة كانت تصل لمئات الالاف من الجنيهات , واما محسوب على هذا المسئول وذاك القاضى الكبير, وكلاهما جريمة يعاقب عليها القانون لاهدارها مبدأ تكافؤ الفرص , وتهدر نظام الكفاءة كمعيار وحيد لهذه المهنة بالغة القدسية والخطورة , ونجم عن ذلك ظهور وكلاء نيابة وقضاة لا يعرفون شيئا عن القانون الذى يحكمون به , وعادة ما تصدر احكامهم هائمة تعبر عن الهوي والانطباع بل والمصلحة , فتأتى قاتلة للعدل وعكس ما ينبغي ان تكون.
وسر لى صديقى الصحفي "الناصري" عن خشيته من ان يمثل ذات يوم امام احد وكلاء النيابة في اى تهمة كانت ثم يعرف هذا الوكيل انه كان مؤيدا للدكتور محمد مرسي فيصدر عليه حكما قاسيا , وقال انه اصبح الان حينما تذهب للقضاء , فالقاضى لا يعمل جهده فى فحص ما لديه من مستندات ليصدر حكما بخصوصها , ولكنه يبذل قصاري جهده لمعرفة ولاءك السياسي ليصدر عليك حكمه.
ولنا فى حكمين صدرا مؤخرا ضد شخصيتين بارزتين برهانا واضحا , الاول خاص بالاعلامى توفيق عكاشة الذى كان يوالى الرئيس المخلوع ومن بعده المجلس العسكري حيث خرج فى برنامج يقدمه على احدى فضائيات الفلول يسب ويلعن رئيس الجمهورية ولما تمت مقاضاته تمت تبرئته على الفور, والثانى مع الشيخ عبدالله بدر الذى انتقد عبر قناة الحافظ الدينية الفنانة الهام شاهين - التى توالى نظام مبارك ايضا - بسبب ما اسماه ظهورها شبه العاري فى الاعمال الفنية التى قدمتها وهنا صدر الحكم باغلاق القناة ومنع الشيخ من الظهور اعلاميا لمدة شهر , والسؤال هل هيبة الفنانة يجب ان تكون اكبر من هيبة الرئيس.!!!
وقال لى رئيس جهاز مدينة القاهرة الجديدة فى سؤال له حول تفشى ظاهرة العشوائيات فى تلك المدينة الحضرية , ان جهاز المدينة يقوم مرارا وتكرارا بتحرير محاضر الازالة ضد المعتدين على اراضى الدولة والمخالفين في منطقة التجمع الثالث ويرسلونها الى النيابة فيفاجئوا بانها تقوم باخلاء سبيلهم مقابل غرامة مائة جنيه دون ان تأمر بازالة المخالفات , الامر الذى حول تلك المنطقة الى منطقة عشوائية معبرا عن رغبته فى توصيل صوته الى المشرعين بضرورة تغليظ العقوبات فى القوانين الجديدة والا لن تصبح فى مصر منطقة حضرية واحدة , ولعل الانتقادات التى وجهت للقضاء هى ذاتها الموجهة للسلك الدبلوماسي من حيث المحسوبية والرشوى كمعيار للتعيين , فضلا عن عدم تفاعل تلك السفارات مع الجاليات المصرية فى الخارج ان لم يكن السفراء القائمون على امر تلك السفارات ارتضوا ان يعملوا كممثلين للدول التى هم بها فى مصر وليس العكس وهو ما يعرفه المصريون جليا فى سفاراتنا بدول الخليج , فضلا عن الامر لا يعدو عند اكثر سفرائنا عن مجرد نزهة طويلة وفرتها له مصر للفسحة والاستمتاع بما حرم منه فى بلاده.
وثانى الملفات هى تلك التى تخص "الاخونة" ودعونى انتقد المصطلح جملة وتفصيلا , فمن المعروف فى البلدان المستقرة ديمقراطيا , ان من يفوز بالاغلبية يحكم , منفردا , وله وليس لغيره القرار فى ان يستعين بمن هم ليسوا من حزبه , وان فعلها فهذه مكرمة منه , وان لم يفعلها فلا غبار عليه ,هذه هى الديمقراطية ونظام حكم الاغلبية كما نعرفها وكما عرفها سارتر وبرتراند راسل وادم سميث وغيرهم ممن ارخوا لها من فلاسفة الغرب , هذه اولا , وثانيا ما مبرر القلق من ان يحكم الاخوان , أليسوا هم ومن يوالونهم فصيلا مصريا واسعا تم اقصاءه ظلما وتجبرا فى الفترات السابقة ؟ ألم يأتوا بنظام انتخابي ؟ أليس من حقهم ان يحكموا بالطريقة التى تناسبهم فى اطار الدستور الذى ارتضاه الشعب ؟ هل وجود وزير او خفير او رئيس اخواني يعنى انهم سيخلدون فى مناصبهم ولن يبقي احدهم لمدة اربعة سنوات فقط ثم يحل محله من يفوز فى الانتخابات التى تليها؟ ثم انه لو كان بمقدور الاخوان ان ينالوا الاغلبية فى كل الانتخابات الديمقراطية , اذن , فمن حقهم ان يحكموا لانهم يحوزون على ثقة الشعب او ربما لانهم هم الشعب , ايهما ؟ كما انهم لو كانوا بتلك الكثافة التى تمكنهم من بسط سيطرتهم على البلاد فوجب ايضا ان نعترف بقوتهم وحقهم فى تقرير مصير بلادهم؟
ثمة , سؤال مهم ايضا , لماذا كلما يقترب مرسي من اى حركة تطهير - وهى من مطالب الثورة وثوار "عام 2011" اصلا - نجد تنفجر نبرة الاخونة فى ابواق اعلام مبارك , ألا يعنى ذلك ان نظام مبارك المتجذر وليسوا الاخوان يرسلون رسائل لنا نحن لا نقرأها بانه اما هم او الاخوان ولا ثالث بينهما ؟ ام انها رسالة لترهيب الاخوان ودفعهم دفعا نحو الرضاء بتشكيل تحالف مع الفلول تحت وطأة دعاية ألة علامية شرسة يمتلك رجل اعمال واحد من رجال مبارك وهو محمد الامين قرابة عشرة قنوات فضائية ينفق فيها مئات الملايين شهريا كرواتب(!!) حيث انشأ (فى أول رمضان بعد الثورة قناة CBC ثم تبعها بقناة ثانية CBC دراما ثم ثالثة +CBC وفى سبتمبر 2011، اشترى 85% من قناة النهار وقناة النهار دراما، ثم اشترى مجموعة قناة مودرن (مودرن سبورت - مودرن كورة - مودرن حرية) ثم وكالة الأخبار العربية AUA من ورثة محمد الخرافي، حيث ينشئ قناة إخبارية بتكلفة قناة الجزيرة القطرية، التى تقف وراءها دولة كاملة، ثم صحف الفجر واليوم السابع والمصري اليوم , وتجرى الآن مفاوضات لشراء مجموعة قنوات بانوراما التى تضم قناتين للدراما وقناتين للأفلام إحداهما للأفلام العربى وأخرى للأفلام الأجنبي، وأيضاً "موجة كوميدى").
لقد سقط الاعلام سقوطا مدويا , فهذا الاعلام الذى كان يسبح بحمد مبارك ليل نهار ويبكى ويتباكى على ان سمعة الرئيس مبارك من سمعة مصر وهيبته من هيبتها ضد اى زفرة ألم مكتومة تنطلق هنا او هناك ضده , هو ذاته هذا الاعلام والاعلاميين الذين يستبيحون شخص مرسي شهيقا وزفيرا , وفى الليل والنهار , وبكرة واصيلا, ويقولون انه حرية الاعلام لدرجة انهم اعتبروا ان حرق قرابة 40 من مقار حزب الحرية والعدالة امرا مشروعا وتكسير زجاج حزب الوفد عملا بربريا , واعتبروا ان الاعتداء على المستشار صبحى صالح عملا ثوريا وان الاعتداء على محامى مبارك شوقى السيد عملا فاشيا , واعتبر ان حصار مبنى الاذاعة والتلفزيون عملا ثوريا وحصار مدينة الانتاج الاعلامى عملا بربريا , واعتبر ان دعوته لحصار وزارة العدل عملا ثوريا اما حصار الدستورية فاعتبره عملا بربريا , واعتبر ان مسألة رئيس تحرير الدستور فى جرائم تحريض اعتداءا على حرية الصحافة ورحب باغلاق قناة الحافظ .. والامثلة لا تحصى من تلك الازدواجية , لدرجة ان احدهم وهو واحد ممن سخرهم جهاز حساس لمعارضة مبارك من قبل رأيناه فى احداث الاتحادية يقوم باذاعة عناوين منازل قيادات الاخوان المسلمين داعيا متظاهري احداث الاتحادية للذهاب اليهم وقتلهم ,, فهل هذا يقع ضمن حرية الاعلام.
خلاصة : اما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث فى الارض , انها الثورة الربانية.
mubcrime@gmail.com
albaas10@gmail.com