مثلما كان اليمنيون غير قادرين وحدهم على تجنيب أنفسهم الانزلاق إلى الحرب الأهلية مطلع 2011م وما بعدها، لولاء جهود الأشقاء في الخليج التي تكللت بالتوقيع على المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر 2011م والتي لا ينكر اليمنيون أنها جاءت كحل وسط لتجنيبهم الحرب الأهلية، نجدهم اليوم أيضاً بحاجة إلى مثل هذه المبادرات التي بالإجماع عليها محلياً وإقليمياً وعربياً يمكن منع انجرارهم إلى فخ الفتنة المذهبية ويمكن إيجاد مظلة تؤمّن انتقال مراحل التسوية السياسية في اليمن للتنفيذ السلس لبرامجها والبدء بالخطوات الأساسية لبناء الدولة الاتحادية المتمثلة بإنجاز الدستور الجديد والاستفتاء عليه وتشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على تأمين وإنجاح المراحل القادمة.
إن ما يجري اليوم في صنعاء هو امتداد للتناقض الحاصل داخل الأحزاب والتيارات السياسية اليمنية، بين ما تتبناه في خطابها السياسي من جهة وبين تعاملها على واقع الأرض عند تنفيذ برامج الانتقال لمراحل التسوية السياسية في اليمن من جهةً ثانية، حيث جسدت هذا التناقض في كثير من المحطات الأخيرة التي مرت في اليمن، قبيل التوقيع على المبادرة الخليجية وعند إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة في فبراير 2012م ونقل السلطة ومرحلة الحوار الوطني واختتامه، إلى جانب أن الأزمة الراهنة هي إحدى نتائج هذا التناقض وأحد إفرازاته التي تحمل مخاوف كبيرة من تحول الصراع السياسي هذه المرة في اليمن إلى فتنة مذهبية ستأكل الأخضر واليابس وستزيد من تعقيدات الوضع والأزمة فيه، إذا ما توحّد اليمنيون حول مخرجات الحوار ومنعوا الجماعات المسلحة ومنها التنظيمات الإرهابية (تنظيم قاعدة الجهاد في شبه الجزيرة العربية) والتصدي لمحاولاته باستغلال هذا الوضع الهش لإدخال اليمن في حرب طائفية ومذهبية بالرجوع إلى نظرته القائلة إن (وجود دولة يتناقض مع بقائه) لهذا يسعى التنظيم لاستغلال أي توتر لإشعال الفتنة المذهبية للأخذ بالثأر لدماج بحسب ما يزعم قادته وما نلمسه من تهيئة مخيفة من قبله لإبراز مسببات وخلافات مذهبية لتوفير مظلة «عقيدة» ومبررات للحرب لنسف كل الجهود التي قام بها رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي ونتائج ومخرجات الحوار وهذا بالطبع لا يخدم الشعب اليمني ولا جماعة الحوثي ولا الدولة والأحزاب السياسية، بل يصب في مصلحة تنظيم القاعدة الإرهابي.
قد يستبعد البعض ظاهرياً انزلاق الوضع في اليمن إلى هذا المآل عندما ننظر إلى التعايش القائم بين اليمنيين بمختلف مذاهبهم الدينية والى تاريخهم المليء بالتراحم والتآخي فيما بينهم، لكننا حين نراجع تاريخ الأحزاب والتيارات السياسية اليمنية التي ترفع شعاراتً للاستهلاك الإعلامي وخطاب سياسي للمغالطة للحصول على التأييد الشعبي وتضع أهدافاً أنانية خفية تصب في مصلحة قادتها، يظل الخطاب السياسي والإعلامي وسيلة تشعل بها القواعد الشعبية حتى تصل إلى سدة الحكم ثم يطغى على ممارستها السعي لتحقيق الهدف الخفي والمصالح الحزبية التي تتقدم على المصلحة الوطنية وتبدأ بتهميش الآخر والاستفراد بالسلطة، ونادراً ما تنجح نماذج التوافق ولكن مرحلياً ووفقاً والهدف الخفي، وشراكة عام 90 م بين الحزبين (المؤتمر والاشتراكي) خير الشواهد على ذلك، وكذا شراكة الثلاثة الأحزاب في مجلس الرئاسة وائتلاف 94م لاتزال آثارها شاهدة في المحافظات الجنوبية، فاذا أُغلقت الأبواب أمام التوافق فنجدها سرعان ما تبحث عن البدائل الأخرى لتوفير غطاء أو مظلة لتمريره ودائماً ما تكون الورقة الدينية حاضرة في المشهد، ففي 94م تم تكفير البعض حين رفضت الأحزاب السياسية الثلاثة التنازل عن مصالحها ووضع مصلحة الوطن فوق مصالحهم، لينتهي الأمر بتوفير الغطاء الديني والذريعة للحرب، ولا نجد تفسيراً لما هو حاصل اليوم سوى أنه يعكس بقاء الفجوة القائمة بين الفكر السياسي والخطاب الحزبي والتناقض بين القول والتطبيق، فقادتها يرفعون شعارات رنانة ويبحثون عن مصالح خاصة وعند توفر أية حلول أو مبادرات لا تخدم مصالحهم الحزبية الخاصة سرعان ما نراهم يحركون السلاحف والأوراق الدينية للتلويح بالحرب.
قبل أيام قرأت في إحدى الصحف عن تحركات للجماعات الإرهابية تشهدها مدن البيضاء ورداع يقودها علي الذهب لتأسيس تحالفات قبلية مع تنظيم القاعدة (أنصار الشريعة) تهدف للتصدي للحوثيين من منطلق ما يسمونها (روافض)، واستفزازات وعنتريات خطيرة تقوم بها جماعة الحوثي في الساحات حتى وإن تميزت بتعدد اللون الاجتماعي فإن ذلك لا يعدو أن يكون محاولة لإخفاء الورقة الدينية والمذهبية التي أوجدت هذه الجماعة، كذلك بقية الأحزاب التي اتجهت إلى الساحة الأخرى كانت الورقة الدينية والقبلية إحدى أدواتها للعلب في الساحة السياسية.. ليس هذا يثير القلق والمخاوف في ظل استمرار تعنّت جماعة الحوثي وعدم موافقتها على المبادرة الرئاسية التي تعد حلاً وسطياً لكل القوى.
إن اللعب بورقة الشارع التي تسيدت الموقف في صنعاء خلال هذا الأسبوع وأظهرت الشارع اليمني منقسماً ليس بدافع سياسي أو مطلبي فقط.. إلى جانب مؤشرات بروز اللعب بالورقة الدينية للحضور في المشهد والأزمة القائمة سواء من الأحزاب والتيارات السياسية بما فيها جماعة الحوثي يوفر الفرصة التي قد تُسهم في الدفع بالوضع إلى الانزلاق إلى فتنة مذهبية، وهذا ما لا نتمناه، الأمر الآخر الخشية من أن هذا سيعطي فرصة للتنظيمات الإرهابية (أنصار الشريعة) التي هي على خلاف مذهبي مع (أنصار الله) للدفع بالوضع نحو المواجهة والانزلاق إلى صراع مذهبي بعد أن بات هذا التوجس حاضراً في الشارع اليمني.
لا ننكر أن الحوثي تمكن من جرّ التيارات السياسية إلى فخ الرضوخ لمطالبه منحه تعاطفاً، مستغلاً محاولات الدولة لتقديم التنازلات بدافع منعها للاقتتال المذهبي، ومع أنهم استطاعوا تقويض هيبة الدولة.. إلا أن استمراره في هذا التوجه سيوفر فرصاً إضافية تتيح للتنظيمات الإرهابية التوغل والاستفادة من هذا الاختلال وجر الحوثيين إلى فخ الاقتتال المذهبي.
وإذا نظرنا بعمق إلى المبادرة الرئاسية التي أعلنها الرئيس عبدربه منصور هادي، رئيس الجمهورية فإنها تمثل أساساً منطقياً يمكن للأطراف السياسية المتصارعة والمتفرجة إذا تخلت عن نظرتها الضيقة والأنانية وأعلنت تأييدها لإعطاء الزعماء العرب الفرصة لإيجاد الأرضية التي يمكن الاستناد عليها لتجنيب اليمن أي انزلاق خطير للأزمة الراهنة التي تشهدها صنعاء، لا سيما ونحن نرى بعض الأطراف تسعى إلى جر اليمنيين إلى فخ "الفتنة المذهبية" الذي يخطط له تنظيم القاعدة في اليمن لاستدراج جماعة الحوثي وبقية الأطراف إلى هذا المستنقع الكارثي التي ستطال نتائج الوقوع فيه كل اليمنيين والدول المجاورة.
إن اليمنيين يعقدون آمالاً كبيرة على وزراء الخارجية العرب وفي مقدمتهم الإخوة الأشقاء وزراء خارجية دول الخليج بمواصلة حرصهم على اليمن والشعب اليمني والاهتمام به والحفاظ على أمنه واستقراره، وإنقاذه من الخطر الذي يحدق به ومنع الفتنة المذهبية القادمة التي يخطط لها تنظيم القاعدة ويتطلعون إليهم بأنهم سيضعون قضية اليمن وأزمته الراهنة في مقدمة القضايا المنظورة في الاجتماع، لا سيما وإن التحديات الراهنة التي يواجهها اليمنيون لا يمكن عزلها عن ما يدور في بقية الأقطار العربية وفي مقدمتها سوريا والعراق والبحرين بسبب التدخل الإيراني في شؤونها وفي ظل توغل الجماعات الإرهابية واستغلالها لهذه الأوضاع والأزمات لتمرير مخططاتها لضرب الشعوب والدول الإسلامية.
n.albadwi2013@hotmail.com