يقول الكاتب الأيديولوجي الكبير عبدالله العروي إن «صيرورة الواقع الاجتماعي نسبية الحقيقة المجردة، إبداع التاريخ، جدلية السياسة: هذه معالم الفكر العصري وقوام المجتمع المصري، عرفها حقاً البعض منا وفسرها ونادى بها، ولكن المجتمع العربي ككل، منذ القرن الماضي يتردد في تبينها تبيناً كلياً وينكرها المجتمع العربي، لا في دائرة الأسرة والمسجد والكتاب فحسب، بل في داخل البرلمان والمدرسة العصرية وحتى في قلب المصنع، ثم يتردد في عرفانها لا في تراثنا القديم حين يعاد طبعها فحسب، بل في التأليف المعاصر، على صفحات الصحف اليومية وشاشات التلفزيون وباختصار في ذهن كل منا».
لقد دعا الكاتب في كتابه «الأيديولوجية العربية» المثقفين العرب الى فهم الثقافة العربية التقليدية كمدخل جدلي وثوري لتصويب ما نتج عنها من الأخطاء ويقصد بذلك هدم ما هو سلبي من ذلك الموروث الثقافي بدافع الحرص على البناء الذي يقدم دواعي الحاضر والمستقبل بإيجابياته على تداعيات الماضي بما ينطوي عليه من السلبيات من خلال منهج نقدي جدلي ثوري قادر على تحقيق التغيير والتطور وتحطيم ما تراكم حولها من القداسات المتراكمة خلف الغيبيات الكهنوتية المتخلفة بعد أن وصلت النماذج الايديولوجية الاسلامية والاشتراكية والفئوية في غياب الفلسفة الايديولوجية والثورية النقدية الى الفساد والإفساد في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، على نحوٍ جعل الغلبة العسكرية لإسرائيل على أبناء الأمة العربية.
أقول ذلك وأقصد به ان ما تحدث عنه هذا الكاتب بعد نكسة يونيو حزيران 1967م قد جاء بوجهة نظر نقدية ثورية على ما هو مكتسب من الثقافة الايديولوجية الجامدة قد تجلى في فكر ناقد يقدم المستقبل على الماضي ويقدم العلمي على اليقيني بفتح المجال الى النقدي ليعيد ترتيب الأشياء عبر التساؤل والتفنيد المستمر لها لتحقيق ما هو بحاجة اليه من الأسئلة ومن إجابات العلمية والعملية الناضجة لتحقق له ما هو بحاجة اليه من الوعي الذاتي والموضوعي، وما هو بحاجة اليه من القوة والعزة لتحقيق السياسات والتقنيات المادية والمعنوية التي تمتاز بها الثورة الصناعية العملاقة التي غيرت وجه التاريخ وحققت في الغرب منجزات كأنها المعجزات.. ومعنى ذلك أن الانطلاق من إعادة طرح الاسئلة والإجابة عليها لا ينبغي أن يكون محاكاة للماضي ومقيداً باجتهاداته التي تحولت عبر ثقافة الحفظ والتكرار السلفية الجامدة الى مقدسات تعتبر كل إبداع ضلالة وكل ضلالة في النار لا ينتج عنها سوى التخلف الذي يجعل السؤال والجواب يدور حول الدوامة الراكدة للماضي دون قدرة على تجاوزها الى المستقبل لإضافة الجديد الى ما هو كائن من اجتهادات تؤدي الى الابداع والإنتاج في حالة غياب لا يتجاوز الحدود الضيقة لما هو مباح من الفكر الرجعي الجامد الذي كان مجرد إجابات عقدانية بعيدة عن أسئلة غائبة أو شكلية تماماً، تفتقد للميزات النقدية التنويرية القادرة على الهدم بدافع الرغبة في البناء، لذلك لا غرابة إذا قيل إن الكتاب برغم أهميته قد جاء في قالب تساؤلي إشكالي غير وصفي ولا جزمي، يطرح ما هو كامن من مشاكل الماضي دون جرأة على الإجابة بالإثبات والنفي وكأنه قد اكتفى بدعوته للمثقفين والمفكرين العرب الى وعي انتقادي رئيس ودائم الشك والتشكيك في تكنوقراطية الغرب وعاطفية العرب .. يقوم المستقبل على الماضي ويوفر لحركة التغيير والتطور ما هي بحاجة اليه من الوسائل والمستلزمات التقنية والالكترونية القادرة على ضبط وتوجيه الجهود والطاقات العلمية والعملية بالاتجاه الذي ينتج ثورياً ما نحن بحاجة اليه من المنجزات والأمجاد والانتصارات الثورية العملاقة.
ومما لاشك فيه ولا ريب أن أبناء الشعب اليمني بمختلف اتجاهاتهم وتكويناتهم السياسية والاجتماعية قد أصبحوا بحاجة ماسة الى عقد اجتماعي تتموضع فيه الثقافة السياسية الجديدة كمرجعية دستورية وقانونية لكافة ما نحن بحاجة اليه من الأنظمة والقوانين المنظمة للحقوق والحريات وفي مقدمتها حرية الصحافة وحرية النقد وحرية الابداع والإنتاج في شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والامنية والعسكرية .
دستور دائم يحقق الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية في عصر يقال عنه عصر الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية والسياسية والتداول السلمي للسلطة والشراكة الاجتماعية المحكومة بالعدالة في الثروة وحقوق الإنسان الجدلي الباحث عن التقدم بعقلية نقدية دائمة الابداع والإنتاج في ظل دولة مدنية حديثة وديمقراطية وقوية.
أقول ذلك وأقصد به أن صلاح الدولة ومدنيتها وحداثتها لا يمكن أن تتم الا من خلال منظومة دستورية وقانونية وتحررية مستوعبة للجديد ومبدعة له تجعل الانتصار على الحاضر والمستقبل عملية أكيدة ومقدمة على ما حدث في الماضي القريب والبعيد من التراكمات الرجعية السابقة للثورة اليمنية «26سبتمبر و14أكتوبر» الخالدة التي تذكرنا بما تراكم من الحرمان والجهل والفقر والمرض والعزلة وما نتج عنها بالأمس من إضافة تجهيل الى جهل وإضافة أحقاد إلى أحقاد وفساد الى فساد وفقر الى فقر، ونحن بصدد كتابة مشروع الدستور الدائم كخلاصة مستوعبة لما قبله من الدساتير والقوانين السابقة..
الدستور الذي سيكون بمثابة الرافعة الحضارية للدولة المدنية الحديثة دولة النظام وسيادة القانون.. دولة الديمقراطية والعدالة والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية المرسخة للأمن والاستقرار والنابذة لكل ما هو ذميم وقبيح من الظلم والفقر والاستبداد والتجهيل والجهل.. دولة تحرر العقل من طغيان الغيبيات وتحرر العلم من مطلقات الاستبداد والكهانة.. دولة مدنية تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية المعنية بصلاحيات واختصاصات البرلمانات والتنفيذية المعنية بالحكومات والقيادات السياسية، والقضائية المعنية بتحقيق العدالة والمساواة.. دولة مدنية توقف فساد وطغيان السلطة بالسلطة، وتمثل المظاهر العظيمة للرقي والتقدم والمدنية، ناهيك عما توفره للشعب اليمني من أجواء مفعمة بقيم الحب والاخوة وقيم التعاون والتكامل والتكافل والوحدة الوطنية والانشغال في منافسات إيجابية للسباق الدائم والمستمر على كل ما هو جديد ومثمر في ميادين العلم والعمل بدلاً من الانشغال في المكايدات والمزايدات السياسية التي لا ينتج عنها سوى الصراعات والحروب الدامية والمدمرة التي يتضرر منها الجميع ولا يستفيد منها أحد..
أقول ذلك وأقصد به أن ما نتج عن الحوار السياسي من مخرجات دستورية وقانونية واعدة طال انتظارها لا ينبغي أن يكون كغيرها من الأفكار السابقة التي حصرت مصادر التشريع في نطاق القداسات الخاضعة لطغيان النقل على العقل والقديم على الجديد..
دستور ديمقراطي لا ينبغي أن يفهم البعض بأنه تفصيل على مقاس الجماعات والأحزاب والتنظيمات والمذاهب الدينية الطائفية والكهنوتية المتحجرة والمفصلة على مقاس الجماعات والأفراد يولد فجأة ويتحول بمجرد زوال السلطة عن الافراد والجماعات التي فصلته على مقاساتها..
دستور دائم التجديد والتجدد ومنفتح على كل ما هو مفيد من العلم ومفيد من الدين لا مجال فيه للانتقائية والعفوية المرتجلة دون استيعاب لما فيه من المعاناة والتضحيات المكلفة للأزمات السياسية والصراعات والحروب التي يمتزج فيها الدم بالمال، ويمتزج فيها الجهد بغيره من التضحيات المادية والمعنوية غير القابلة للتكرار بتكلفة سهلة، بعد أن بلغت القلوب الحناجر وفاض الإناء بما فيه..
دستور بالجميع يحقق للجميع ما هم بحاجة اليه من حرية نقدية تساعد على الإبداع والإنتاج في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية لا يلتفت فيه الى من يحكم اليوم ولا يلتفتون فيه الى من سيحكم في الغد..
دستور يستوعب الإرادة الحرة للشعب اليمني صاحب المصلحة الحقيقية في التداول السلمي للسلطة، لأن الدروس المستمدة من الأمس مازالت حية ومازالت عالقة في الأذهان تذكرنا بما نحن بحاجة اليه من قواعد ونصوص فقهية تتسع لكل اليمنيين برجالهم ونسائهم بكافة قناعاتهم المذهبية والسياسية وانتماءاتهم الحزبية والمذهبية والمناطقية، يحمي الحق بالواجب ويحقق المعاني العظيمة للتنوع والتعدد في كافة المجالات المادية والمعنوية الابداعية والإنتاجية..
دستور ديمقراطي يستهدف المزيد من المساواة في الحقوق والحريات والواجبات الوطنية، يتعمد صناعة التحرر من العقد والتحرير من الاستبداد والدكتاتورية ومن ثقافة الطغيان والعبودية بقدر ما لديهم من الاحقاد والحساسيات مما لديهم من الخلافات والصراعات وينظرون للزمن بتخارجاته الماضية والحاضرة والمستقبلية من وحي شعورهم بالمسؤولية المجسدة لشرف الانتماء لقدسية الوطن والمواطنة اليمنية بأبعادها الوطنية والعربية والاسلامية..
دستور يعبر عن قناعات ثقافية وديمقراطية وناقدة على قاعدة الاقتناع المسبق بأنها تعكس الإرادة الشعبية المنتجة للمصداقية والموضوعية والثقة بين أغلبية تحكم وأقلية تعارض هي البديل لكل أنواع الثقافات الشمولية ذات الحكم المطلق والمعارضة المطلقة لأن الحكم المطلق والثقافة المطلقة لا يمكن أن يستندان إلا الى مرجعيات عبودية غير ديمقراطية تعبر عن رغبة مستبدة تدغدغ البعض في طموحات غير مشروعة وغير دائمة لا ينتج عنها سوى المزيد من الصراعات والحروب على السلطة والثروة التي لا تخلف سوى الدماء والدمار والأحزان، لأن الديمقراطية سلطات لا سلطة واحدة، سلطة تدير دفة الحكم بعقلية من سيعارض في الغد، وسلطة تدير المعارضة بعقلية من سيحكم في الغد، استناداً الى منافسات برامجية تتجسد فيها المعاني العظيمة، ذات الوسائل والاساليب الانتخابية السلمية والقيم الحضارية الموجبة للاعجاب والفخر وما يترتب عليهما من الفوز بإرادة الهيئة الناخبة لأن الدستور الديمقراطي الذي ينطلق من ساحة المواطنة المتساوية باعتبارها الثابت الوحيد في التداول السلمي للسلطة لا يقبل في أبوابه وفصوله وقواعده ونصوصه الشخصنة بكافة أساليبها ووسائلها الدكتاتورية الهادفة الى التفصيل على المقاسات الجاهزة مع أو ضد لأنه يتحول الى دستور منتج للأزمات الدورية، لأن التداول السلمي للسلطة بشرعية انتخابية حرة ونزيهة ومستوعبة للمعايير الدولية هو المتغير الدائم والمستمر، الذي يوفر للدولة ما هي بحاجة اليه من مقومات المدنية والحداثة والمحققة المواطنة المتساوية والثابتة، والتداول السلمي للسلطة الذي يعني أن من حق الأغلبية إحلال ما لديه من الكوادر والقواعد الحزبية في جميع المؤسسات المدنية والعسكرية للدولة، لأن الحدود العليا للتداول تنحصر في نطاق المواقع السياسية للوزراء ونوابهم وللرؤساء ونوابهم ومساعديهم ومستشاريهم، تاركين الأجهزة الإدارية والمالية والقضائية والعسكرية للدولة كما هي طبقاً لما تنص عليه القوانين من الشروط المتمثلة بالكفاءة العلمية والخبرة العملية للموظفين السابقين وفق ما لديهم من القدرات التنافسية ووفق ما لديهم من التخصصات الفنية على شغل الوظيفة العامة للدولة.
أقول ذلك وأقصد به أن التداول للسلطة محصور في نطاق المواقع السياسية وأن الاعتداء على الوظيفة العامة من قبل الحزب الحاصل على ثقة الهيئة الناخبة لا يعني افتراس حزب الاغلبية لحقه وحق غيره من الوظيفة العامة للدولة، لأن هذا النوع من الممارسات الشوفينية ذات النزعات الشمولية المستبدة لا علاقة له بالديمقراطية القائمة على التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة بأي حال من الأحوال وبأي تجربة من التجارب الديمقراطية الناضجة والناشئة..
أقول ذلك وأقصد به أن الحزب الذي يعتقد أنه يستطيع بالديمقراطية أن يفرض إرادته المستبدة في أخونة الدولة سرعان ما يجد نفسه في حالة مواجهة مع جميع أبناء الشعب الذين يمتلكون الحق الديمقراطي بسحب ما منحوه من الثقة ما لم يستجب للانتخابات المبكرة، تماماً كما حدث للاخوان المسلمين في جمهورية مصر العربية وكما حدث للألمان والايطاليين في العصور النازية والفاشية التي تحولت الى حروب عالمية نتج عنها تحريم هذا النوع من الأحزاب والتنظيمات السياسية التي لا ينتج عنها سوى الصراعات والحروب الاستعمارية الدامية والمدمرة..
أخلص من ذلك الى القول إن الشعب اليمني يتطلع من دستوره المنتظر الى عقد اجتماعي يحقق له ما يحلم به من الحكم الديمقراطي الرشيد والدولة المدنية الحديثة.. دولة التغيير والتطور المنتج للمدنية الحديثة المحققة للسعادة والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية المرسخة لقيم الأمن والاستقرار.